في منعطف سياسي لافت، وبعد عامين من الدعم غير المسبوق الذي قدمه لإسرائيل في حربها على غزة، يبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد قرر تغيير قواعد اللعبة. فممارسة الضغط العلني على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإنهاء الحرب لم يأتِ من فراغ، بل هو استجابة مباشرة لزلزال عنيف يضرب أسس الرأي العام الأمريكي، وهو ما يجيب على سؤال "لماذا الآن؟".
إن الإجابة تكمن في تحول تاريخي وجارف في مواقف الشباب الأمريكي، وبشكل خاص داخل صفوف الحزب الجمهوري، وهو ما يمثل صدمة حقيقية لإسرائيل وللوبي الداعم لها في واشنطن.
انقلاب في الرأي العام الأمريكي
لأول مرة في تاريخ استطلاعات الرأي الأمريكية، يتجاوز التعاطف مع الفلسطينيين مستوى التعاطف مع إسرائيل. هذا التحول، الذي كان ينمو ببطء على مدى العقد الماضي، تسارعت وتيرته بشكل هائل خلال عامين من حرب غزة. لقد نجحت صور الدمار والمجازر، والخطاب الإنساني الذي تبنته حركات التضامن العالمية، في اختراق الرواية الإسرائيلية التقليدية التي هيمنت على الإعلام الأمريكي لعقود.
🚨 BREAKING: For the First Time in Polling History, More Americans Sympathize with Palestinians over Israelis. pic.twitter.com/qkpl8Xnmzx
— Ryan Rozbiani (@RyanRozbiani) October 10, 2025
لم يعد بالإمكان حجب الحقيقة، خاصة عن جيل الشباب الذي يعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر أساسي للمعلومات، بعيداً عن سيطرة وسائل الإعلام الكبرى. وقد أظهر هذا الجيل قدرة فائقة على التمييز بين موقف الحكومات وموقف الشعوب، رافضاً سياسة الدعم الأعمى لجرائم الحرب الإسرائيلية، وهو ما انعكس بشكل مباشر في استطلاعات الرأي الأخيرة التي دفعت بترامب إلى إعادة حساباته.
تصدعات داخل المعسكر الجمهوري
الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لترامب وإسرائيل هو أن هذا التحول لم يعد مقتصراً على الدوائر التقدمية في الحزب الديمقراطي. الصدع وصل إلى قلب القاعدة المحافظة في الحزب الجمهوري. فبعد أن كان الدعم لإسرائيل عقيدة لا تقبل النقاش، بدأت أصوات مؤثرة داخل اليمين الأمريكي، مثل الإعلامي تاكر كارلسون والناشط تشارلي كيرك، توجه انتقادات لاذعة لإسرائيل وتتساءل عن جدوى الدعم الأمريكي غير المشروط لها.
لقد أدرك ترامب، بحدسه السياسي، أن استمرار الحرب بهذه الوحشية لم يعد يخدم مصالحه السياسية. فهو يرى قاعدته الانتخابية، خاصة من الشباب الجمهوريين، تنقسم على نفسها، وبدأ يدرك أن إسرائيل "تخسر معركة الرأي العام" عالمياً وداخلياً. هذا التآكل في الدعم داخل حزبه هو ما أجبره على التحرك، فالسياسة في النهاية هي فن الممكن، واستمرار دعم نتنياهو في حربه المدمرة أصبح مغامرة سياسية غير محسوبة العواقب.
براغماتية ترامب ورغبته في "صفقة" تاريخية
لا يمكن فصل ضغط ترامب الحالي عن شخصيته الباحثة عن "الصفقات" الكبرى والمجد الشخصي. فهو يرى في إنهاء الحرب فرصة لتحقيق إنجاز دبلوماسي تاريخي يُحسب له، وربما يطمح من خلاله للحصول على جائزة نوبل للسلام، وهو هوس تحدث عنه علناً. لقد وجد ترامب أن الأجواء الدولية والضغط الشعبي المتصاعد قد مهدا الطريق أمامه ليلعب دور "صانع السلام" الذي يفرض حلاً على الأطراف المتصارعة.
إذًا، لم يكن تحرك ترامب نابعاً من صحوة ضمير مفاجئة أو تعاطف مع الفلسطينيين، بل هو قرار براغماتي بامتياز. إنه يقرأ مؤشرات الرأي العام المتغيرة في بلاده، ويرى الغضب يتصاعد في الشارع، ويشعر بالانقسام داخل حزبه، وفي الوقت نفسه يلمح فرصة سانحة لتحقيق نصر سياسي شخصي. إن ضغطه على نتنياهو هو محاولة للتكيف مع الواقع الجديد الذي فرضته صدمة "طوفان الأقصى" وصمود غزة، وهو واقع أثبت أن الرأي العام العالمي، وحتى الأمريكي، لم يعد من الممكن تجاهله.