تترقب الساحة الثقافية والتراثية المصرية بقلق ما ستؤول إليه الأمور بعد تولي الدكتور خالد العناني لمنصب المدير العام لمنظمة اليونسكو، إذ تصاعدت التحذيرات والانتقادات من جهات محلية وعالمية تتحدث عن تصاعد جرائم مهددة للآثار المصرية والتاريخ الحضاري. هذه المخاوف لا تقتصر على القضايا الداخلية كالهدم والتهريب، بل تمتد لتشمل سياسات تعليمية واستراتيجية تبدو مرتبطة بتوجهات دولية وإقليمية تشمل تغيير المناهج التعليمية وإدخال سرديات جديدة مثيرة للجدل.
هدم القاهرة التاريخية وتوسع الكباري بلا موقف دولي
شهدت القاهرة التاريخية خلال السنوات الأخيرة حملات هدم وحفريات أثارت قلق العديد من خبراء التراث، خاصة ما يتعلق بمنطقة الجبانات الأثرية مثل مدينة الموتى ومقابر الإمام الشافعي التي تعرضت لهدم على إثر توسعات مشاريع الكباري وطرق السيارات. وعلى الرغم من الانتقادات الدولية التي وجهتها اليونسكو حينها، واعتبارها بعض هذه الأنشطة انتهاكًا واضحًا للتراث الإنساني، فإن المنظمة بقيادة العناني لم تُبدِ موقفاً حازماً مانعاً أو معترضاً بشكل فعّال.
قال الدكتور خالد فهمي، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بجامعة تافتس الأمريكية، إن "هذه الأعمال تمثل جريمة بحق التراث المصري وتكشف عن استهتار واضح بالتاريخ الحضاري العريق". ونتيجة لهذا الهدم، تقلصت المساحات التاريخية التي حافظت لقرون على النسيج العمراني الفريد، بينما تستمر الدولة في تمكين بنى تحتية تخدم مصالح توسعية عسكرية واستثمارية.
تمكين مصالح إماراتية في الشوارع التاريخية
تشير مصادر إعلامية وتقارير لمراقبين إلى تمكين يومي للدولة الإماراتية عبر استثمارات وعقود تسيطر على شوارع وميادين مصرية تاريخية، ما يزيد من الحساسية تجاه السياسات التي قد تمهد لإعادة تشكيل الهوية الثقافية المصرية لتتناسب مع مصالح إقليمية موسعة. هذا الدعم الإماراتي لترشيح العناني لليونسكو يطرح تساؤلات حول وجود علاقة وثيقة بين ملف التراث المصري والتوجهات الدبلوماسية والسياسية الخليجية ضمن المحيط الإقليمي.
تفاقم ظاهرة تهريب الآثار تحت الرماد
تكشف تقارير عدة عن تصاعد عمليات تهريب الآثار المصرية خصوصاً خلال عهد العناني كوزير للسياحة والآثار، واتهامات بأن وزارته فتحت الثغرات القانونية والإدارية التي زادت من خروج القطع الأثرية إلى الخارج. وثقت مصادر إعلامية ضبط شحنات ضخمة مسروقة في إيطاليا وأمريكا تحتوي على قطع نادرة، بينما تم التستر على هذه الملفات أو إغفالها عبر مؤسسات تتبع الدولة.
أحد الخبراء قال إن ملف تهريب الآثار بات أكثر صعوبة في السيطرة عليه بسبب تعدد القنوات وغياب الرقابة الفعلية، والتورط المبهم لجهات أمنية واقتصادية في تسهيل هذه التهريب.
تغيير المناهج التعليمية وتضمين السرديات الصهيونية
أثار موقف منظمة اليونسكو من السياسات التعليمية في العالم العربي جدلاً واسعاً، إذ تصدرت تصريحات رسمية حديثة عن دعم تضمين سرديات الهولوكوست في المناهج الدراسية المقررة داخل الدول العربية. هذا التوجه، بحسب بعض نشطاء التعليم والثقافة، يمثل محاولة لتغيير الذاكرة التاريخية العربية وفرض سرديات متحيزة تساوي بين الضحية والجاني في الصراعات الإقليمية.
الدكتورة سعاد ناجي، خبيرة المناهج التعليمية، شرحت أن تضمين "تاريخ الهولوكوست" بشكل إلزامي في البلدان العربية يؤثر على الهوية الوطنية ويتيح فرصًا لإعادة بناء التاريخ بما يتوافق مع استراتيجيات جيوسياسية دولية.
دعم "الديانة الإبراهيمية" وتأثيره على الخطاب الثقافي
تتبنى اليونسكو في عهد العناني دعمًا مكرراً لما يسمى "الديانة الإبراهيمية" كسياسة لحوار الأديان، لكن جل هذا الدعم يشكل في الواقع محاولات للحد من التضامن الإسلامي الفلسطيني، وإضعاف الروايات التاريخية المرتبطة بالقضية الفلسطينية. وتدل التقارير على أن هذا التوجه يستهدف خلق سردية دينية مشتركة يتم من خلالها تحييد القضايا الجيوسياسية، وهو ما أثار مخاوف من أن يتحول التراث الثقافي إلى أداة لصالح مصالح سياسية.
ردود فعل خبراء التراث والثقافة
تجمع أغلب خبراء الآثار والثقافة على انتقاد السياسات المتبعة، معتبرين أن سجل العناني في مصر مرتبط بفشل ذريع في حماية التراث من التدمير والسرقة، وأن توليه لليونسكو سيكون استمراراً لهذه السياسة على نطاق عالمي. وقال الدكتور محمد عبد المقصود، الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للآثار، إن "العناني لم يظهر أي موقف واضح ضد الهدم والإهمال في القاهرة التاريخية، والآن تنذر السياسات الدولية التي يقودها بمزيد من الاستغلال والإضعاف".
كما حذر عدد من المتخصصين من "تحويل اليونسكو من منظمة لحماية التراث إلى قربان للتوافقات السياسية والإقليمية على حساب صحة التراث والذاكرة".
وأخيرا فإن فترة رئاسة خالد العناني لمنظمة اليونسكو سوف تشكل نقطة مفصلية في ملف التراث المصري والدولي، إذ تتشابك فيها القضايا الوطنية مع تحولات دولية سياسية وثقافية، تدعمها مشاريع توسعية وعقود دولية تجارية وسياسية. الهدم المستمر للمواقع الأثرية، التكتم على عمليات التهريب، التمدد الإماراتي، إضافة إلى السياسات التعليمية المثير للجدل، تنذر بأزمات خطيرة على مستقبل التراث والثقافة في مصر والعالم العربي.