في توقيت بالغ الحساسية، ومع وصول وفدي حماس وإسرائيل إلى مصر لبدء جولة مفاوضات هي الأكثر جدية منذ شهور، انفجرت قنبلة إعلامية زعمت أن حركة حماس وافقت على تسليم سلاحها. الخبر الذي بثته قناتا "العربية" و"الحدث" نقلاً عن "مصدر مسؤول" مجهول، لم يلبث أن تبخر في الهواء بعد النفي القاطع الذي أصدرته الحركة، واصفة إياه بأنه "عارٍ عن الصحة" وجزء من الحرب النفسية المستعرة.
هذا المشهد لم يكشف فقط عن عمق الهوة وانعدام الثقة بين المقاومة الفلسطينية وبعض وسائل الإعلام الإقليمية، بل كشف أيضاً عن طبيعة المعركة الدائرة خلف الكواليس في القاهرة، وهي معركة لا تدور فقط حول بنود الاتفاق، بل حول السردية النهائية للحرب، وحول جوهر بقاء المقاومة كقوة فاعلة على الأرض.
بالونات اختبار إعلامية في سماء القاهرة
لم يكن اختيار التوقيت أو المنصة لنشر خبر "تسليم السلاح" اعتباطياً. فمع انطلاق المفاوضات الفنية في شرم الشيخ، اليوم الاثنين، بحضور وفود من حماس وإسرائيل والوسطاء من مصر وقطر والولايات المتحدة، كان الهدف من هذه الشائعة واضحاً: إرباك المشهد، والضغط على وفد حماس المفاوض، ومحاولة تصوير الحركة وكأنها على وشك الرضوخ لأهم شرط إسرائيلي وأمريكي.
رد حماس جاء سريعاً وحاسماً، حيث أكد القيادي في الحركة محمود مرداوي أن هذه الادعاءات "مفبركة" وتهدف لتشويه موقف الحركة ، وأن بياناتها الرسمية تصدر فقط عبر منصاتها الموثوقة. هذا النفي يبعث برسالة لا لبس فيها إلى جميع الأطراف: سلاح المقاومة ليس بنداً مطروحاً على طاولة المفاوضات. بالنسبة لحماس، فإن السلاح هو الضمانة الوحيدة لتنفيذ أي اتفاق، وهو صمام الأمان الذي يمنع تكرار العدوان، والتخلي عنه يعني ببساطة استسلاماً سياسياً كاملاً.
رددت قناتي العربية والحدث أكاذيب عن قبول حماس تسليم أسلحتها، وادعت القناة أن مصدر مسؤول في حماس أبلغها بذلك!!
— Mourad Aly د. مراد علي (@mouradaly) October 5, 2025
فهل لم تجد حماس سوى هاتين القناتين المعروفتان بانتماءاتهما وانحيازاتهما للعدو الصهيوني لتنقل لهما أخبارها؟
حماس نفت بشدة تلك الإدعاءات التي يبدو أنها تأتي في إطار الحرب… pic.twitter.com/vXMtSpjWsC
خلفية المفاوضات: خطة ترامب وآمال التهدئة
تأتي هذه الحرب الإعلامية في ظل أجواء من التفاؤل الحذر الذي يحيط بالمفاوضات الجارية في مصر، والتي تهدف إلى بحث آليات تنفيذ خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإنهاء الحرب. الخطة، التي رحبت بها حماس مع التحفظ على بعض النقاط، تقوم على مراحل، تبدأ بوقف فوري لإطلاق النار وانسحاب إسرائيلي من التجمعات السكانية، مقابل إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين. وقد أكد ترامب وجود "مناقشات إيجابية للغاية"، معرباً عن أمله في إنجاز المرحلة الأولى هذا الأسبوع لتجنب "سفك دماء هائل".
وفد حماس، برئاسة خليل الحية، وصل إلى مصر حاملاً مطالب واضحة تتمثل في وقف تام لإطلاق النار، وانسحاب كامل للقوات الإسرائيلية، وربط مراحل الاتفاق ببعضها لضمان عدم تملص إسرائيل من التزاماتها بعد استعادة محتجزيها. في المقابل، يتمسك الجانب الإسرائيلي، ممثلاً بوفد يرأسه وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، بأولوية الإفراج عن جميع المحتجزين قبل تنفيذ أي بند آخر.
الإعلام كساحة معركة إضافية
إن الادعاءات الكاذبة حول تسليم السلاح تندرج ضمن استراتيجية إسرائيلية واضحة ترى فيها بعض القنوات الإعلامية العربية أداة فعالة. الهدف هو تحقيق ما لم يتمكن الجيش من فرضه في الميدان: نزع سلاح المقاومة سياسياً ومعنوياً. هذه القنوات، التي يُنظر إليها على نطاق واسع في الشارع العربي على أنها تتبنى وجهة النظر الإسرائيلية والأمريكية، تُستخدم كـ"طابور خامس" لتمرير رسائل تخدم أجندة معادية للمقاومة. فمن خلال بث أخبار عن تنازلات جوهرية، يتم السعي لخلق انطباع بأن حماس ضعيفة ومنقسمة، وبالتالي دفعها لتقديم تنازلات حقيقية على طاولة المفاوضات. كما تهدف هذه الحرب النفسية إلى إثارة البلبلة في صفوف الحاضنة الشعبية للمقاومة، وزعزعة ثقتها في قيادتها.
وختامًا، يؤكد نفي حماس القاطع لما وصفته بـ"أكاذيب" العربية والحدث، أن سلاح المقاومة هو الثابت الوحيد الذي لا يقبل المساومة في خضم بحر السياسة المتحرك. وبينما يسعى الوسطاء في القاهرة جاهدين لردم الهوة بين مطالب حماس بوقف شامل للحرب وشروط إسرائيل الأمنية، تظل المعركة الإعلامية ساحة موازية لا تقل ضراوة، تُستخدم فيها الكلمات كرصاص لتشكيل الوعي والتأثير على مسار المفاوضات. إن نجاح جولة المحادثات الحالية لا يتوقف فقط على التوافق حول عدد الأسرى وجداول الانسحاب، بل أيضاً على قدرة المقاومة على الصمود في وجه الحرب النفسية التي تسعى لانتزاع نصر سياسي لإسرائيل لم تستطع تحقيقه عسكرياً.