أثارت تصريحات وزير الخارجية بدر عبد العاطي الأخيرة موجة واسعة من الغضب الشعبي، بعدما قال إن “من المهم أن تعيش إسرائيل بسلام، وأن تندمج بشكل كامل في المنطقة.”

جملة بدت في ظاهرها دعوة للسلام، لكنها في مضمونها، كما يرى مراقبون، تلخّص التحوّل الجذري في فلسفة الحكم المصري منذ سنوات، حيث أصبحت حماية “سلام إسرائيل” أولوية تتقدّم على كل الاعتبارات القومية والإنسانية، حتى تلك المتعلقة بالمأساة الفلسطينية المستمرة منذ أكثر من عامين في قطاع غزة.

فبينما سقط أكثر من 100 ألف شهيد فلسطيني جراء القصف الإسرائيلي المتواصل، لم تتضمّن تصريحات الوزير كلمة واحدة عن الجرائم أو عن معاناة المدنيين، بل جاءت خالية من أي إشارة إلى العدوان أو الاحتلال أو التهجير القسري.
ولذلك، لم تُقرأ تصريحاته باعتبارها زلة دبلوماسية، بل تعبيرًا صريحًا عن توجّه سياسي جديد يرى أن التطبيع الكامل مع إسرائيل ليس خيارًا بل “قدرًا لا مفر منه”.
 

السيسي و"سلام الشريك الموثوق"
لم يكن بدر عبد العاطي استثناءً. فبحسب محللين سياسيين، فإن خطابه يأتي امتدادًا لموقف الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي تبنّى منذ وصوله إلى السلطة نهجًا يقوم على توطيد العلاقة مع تل أبيب، تحت عنوان “الحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة”.

لكن الواقع الميداني أثبت أن هذا “الاستقرار” لم يكن سوى غطاء دبلوماسي لحماية أمن إسرائيل في مواجهة المقاومة الفلسطينية.
فخلال موجات العدوان على رفح وخان يونس، كانت الطائرات الإسرائيلية تمطر غزة بالقنابل، بينما أغلقت القاهرة معبر رفح في وجه الجرحى، وفرضت قيودًا معقدة على إدخال المساعدات الإنسانية.
وفي الوقت ذاته، كانت وسائل الإعلام العبرية تشيد بالسيسي وتصفه بـ"الشريك الموثوق في الحرب على حماس"، في مشهد عكس بوضوح حجم التداخل الأمني بين الجانبين.
 

خطاب يبرر الاحتلال ويشيطن المقاومة
الأخطر من المواقف الرسمية هو التحوّل في الخطاب السياسي والإعلامي المصري، الذي أصبح في كثير من الأحيان يعيد إنتاج رواية الاحتلال الإسرائيلي بحذافيرها.
ففي الوقت الذي تصف فيه الأمم المتحدة ما يجري في غزة بأنه "حرب إبادة"، خرجت تصريحات لمسؤولين مصريين سابقين تبرر العدوان.

اللواء سمير فرج، أحد أبرز الوجوه الإعلامية المحسوبة على الدائرة الأمنية للنظام، قال في أحد البرامج إن “حماس هي السبب في دمار غزة لأنها رفضت التسويات”، وهي جملة استقبلتها الصحف الإسرائيلية بترحيب واسع، لأنها تمثل ـ بحسب وصفها ـ "صوت القاهرة الذي يفهم المصلحة المشتركة".

بهذا المعنى، لم تعد مصر الرسمية ـ كما كانت تاريخيًا ـ تقف على مسافة واحدة من الصراع، بل تبدو أقرب إلى التماهي مع الخطاب الإسرائيلي الذي يحمّل الضحية مسؤولية مأساتها، ويختزل القضية الفلسطينية في “أزمة إنسانية” لا في مشروع تحرر وطني.
 

من القاهرة إلى تل أبيب... تآكل الدور التاريخي
تاريخيًا، كانت مصر تمثل قلب العروبة النابض في مواجهة المشروع الصهيوني، تقود الموقف العربي وتؤطر لسياسات مقاومة الاحتلال.

لكن السنوات الأخيرة، كما يرى مفكرون مصريون، شهدت انقلابًا في المعادلة، إذ تحوّل النظام من موقع المواجهة إلى موقع “الوسيط المحايد”، ثم إلى ما يشبه “الضامن الأمني لحدود إسرائيل”.
وهو ما عبّر عنه باحثون بالقول إن القاهرة اليوم “لم تعد تقود العالم العربي، بل تدير مصالح إسرائيل في المنطقة من بوابة الأمن.”

هذا التحول لا يعكس فقط انحرافًا سياسيًا، بل تراجعًا في العقيدة القومية التي شكّلت هوية الدولة المصرية لعقود، بدءًا من حرب أكتوبر 1973 وحتى اتفاقات السلام التي التزمت، رغم تحفظاتها، بإبقاء القضية الفلسطينية حية على طاولة المفاوضات.
 

الشعب في جهة... والسلطة في جهة أخرى
رغم هذا الانزلاق الرسمي، يظل الموقف الشعبي المصري ثابتًا في دعمه لفلسطين ورفضه لأي شكل من أشكال التطبيع، كما ظهر في التظاهرات الجامعية وبيانات النقابات المهنية خلال العامين الأخيرين.
لكن هذا الصوت محاصر بين جدران الخوف وقيود الإعلام، الذي تحوّل إلى أداة لترويج السردية الرسمية وتهميش أي رأي مخالف.

إن ما يحدث، بحسب مراقبين، ليس فقط خيانة سياسية للموقف القومي المصري، بل خيانة أخلاقية لذاكرة الأمة التي خاضت حروبًا طويلة دفاعًا عن الكرامة العربية.
فقد لا ترفع الحكومة علم إسرائيل فوق الوزارات، لكنها ـ كما يقول المنتقدون ـ ترفعه في المواقف، في التصريحات، وفي صمتها المريب أمام المجازر.