يُعَد التعليم حجر الأساس لأي عملية تنمية حقيقية، إذ يمثل الاستثمار في العنصر البشري ركيزة لتقدم الأمم. غير أنّ الواقع التعليمي في مصر، وخاصة في المدارس الحكومية، يعاني أزمات متفاقمة أبرزها نقص التمويل وتراجع نصيب قطاع التعليم من الموازنة العامة.
فقد انخفض الإنفاق على التعليم من 3.59% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2015-2016 إلى 1.54% فقط في العام الدراسي 2025-2026، وهو ما يخالف النص الدستوري الذي يُلزم الدولة بتخصيص 4% على الأقل من الناتج القومي لهذا القطاع الحيوي. انعكست هذه الأزمة على البنية التحتية، وكثافة الفصول، ونقص أعداد المعلمين، لتجعل بداية كل عام دراسي بمثابة اختبار صعب للدولة ولأولياء الأمور على حد سواء.
ضعف التمويل وتدهور البنية التحتية
تعاني المدارس الحكومية من بنية تحتية هشة غير مؤهلة لاستقبال الأعداد المتزايدة من التلاميذ. فقد باتت المباني متهالكة، والفصول مكتظة، فيما تفتقر كثير من المدارس إلى المرافق الأساسية مثل المعامل والمكتبات والساحات الرياضية.
ورغم زيادة مخصصات التعليم في الموازنة الجديدة إلى 315.1 مليار جنيه، إلا أنّ الجزء الأكبر يُنفق على الأجور (214.7 ملياراً)، بينما لا يتبقى سوى القليل لأعمال التطوير والصيانة. ويُقدّر خبراء أن نصيب الطالب من الموازنة لا يتجاوز 50 جنيهاً سنوياً، وهو مبلغ لا يكفي لتوفير احتياجات أساسية داخل الفصول.
الاكتظاظ داخل الفصول الدراسية
من أبرز مظاهر أزمة التعليم الحكومي ارتفاع كثافة الفصول، حيث يتجاوز عدد التلاميذ في بعض الصفوف 70 تلميذاً. وتضطر مدارس عديدة في المناطق المزدحمة للعمل بنظام الفترتين لتغطية الأعداد المتزايدة، ما يضعف جودة العملية التعليمية.
وبحسب بيانات وزارة التربية والتعليم، ارتفع عدد الطلاب من 16.8 مليون عام 2014 إلى 22.6 مليون عام 2024، دون زيادة موازية في عدد الفصول الجديدة، الذي يتراوح سنوياً بين 10 إلى 15 ألف فصل فقط، وهو رقم لا يواكب النمو السكاني السريع. هذه الكثافة لا تقتصر على الجانب التعليمي فقط، بل تهدد أيضاً الصحة العامة للتلاميذ، كما تشكل عبئاً على المعلمين.
أزمة نقص المعلمين وتراجع الرواتب
يُعاني قطاع التعليم من عجز كبير يقدَّر بنحو نصف مليون معلم، خصوصاً في المواد الأساسية كالرياضيات والعلوم واللغات. فقد انخفض عدد المعلمين من 874 ألفاً عام 2014 إلى 809 آلاف عام 2024، في وقت ارتفعت فيه أعداد الطلاب بشكل ملحوظ.
ورغم توجيه قائد الانقلاب السيسي بتعيين 30 ألف معلم سنوياً، لم يُعيَّن سوى 16 ألفاً خلال ثلاث سنوات، ما زاد الفجوة بين العرض والطلب. ويبلغ متوسط رواتب المعلمين بين 4 إلى 8 آلاف جنيه شهرياً (نحو 123 دولاراً فقط)، وهو مبلغ ضعيف مقارنة بدول عربية أخرى، مثل المغرب (500 دولار) والأردن (680 دولاراً). هذا التراجع في الدخل يدفع كثيراً من المعلمين نحو الدروس الخصوصية أو البحث عن فرص عمل خارج البلاد.
الدروس الخصوصية كبديل مُرهق للأسر
مع تدني جودة التعليم الحكومي، اتجهت معظم الأسر المصرية إلى الدروس الخصوصية لتعويض النقص في العملية التعليمية.
ورغم أنّ الدروس الخصوصية أصبحت نظاماً موازياً للتعليم الرسمي، إلا أنّها تمثل عبئاً اقتصادياً ضخماً على الأسر، خصوصاً من ذوي الدخل المحدود.
بعض أولياء الأمور باتوا مضطرين لتحويل أبنائهم إلى مدارس خاصة أو العمل في وظيفتين لتغطية نفقات التعليم، كما فعل الموظف ماجد عليوة الذي اضطر للاقتراض لتأمين مدرسة أفضل لأطفاله.
هذا الواقع حوّل التعليم من حق أساسي إلى سلعة لمن يملك القدرة على الدفع، ما يعمق الفجوة الاجتماعية ويزيد معدلات التسرب المدرسي.
محاولات الإصلاح وحدودها
سعت حكومة السيسي إلى مواجهة الأزمة عبر بعض الحلول، مثل التعاقد مع معلمين بنظام الحصة مقابل 20 جنيهاً للحصة، أو تمديد خدمة المعلمين المتقاعدين لثلاث سنوات إضافية. غير أنّ هذه الإجراءات تبقى حلولاً مؤقتة لا تعالج جذور الأزمة.
الرهان الحقيقي يكمن في زيادة الإنفاق على التعليم بما يتماشى مع النص الدستوري والمعايير العالمية، وتوظيف معلمين جدد، ورفع رواتبهم بما يكفل استقرارهم الوظيفي ويشجعهم على الإبداع، فضلاً عن الاستثمار في البنية التحتية والتوسع في إنشاء فصول جديدة.
كما ينبغي تعزيز برامج التوعية المجتمعية للحد من التسرب المدرسي، وتوفير بدائل تعليمية للأطفال المحرومين من مقاعد الدراسة.
وفي النهاية فإنّ أزمة التعليم في مصر ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج تراكمات لسنوات من ضعف التمويل وسوء التخطيط. ومع بداية كل عام دراسي تتجدد المخاوف من قدرة المدارس الحكومية على استيعاب الأعداد المتزايدة من التلاميذ، في ظل نقص المعلمين وتردي البنية التحتية.
وإذا كانت الدولة جادة في تحسين جودة التعليم، فلا بد من إعادة النظر في أولويات الإنفاق العام، والالتزام بالاستحقاق الدستوري للإنفاق على التعليم، وتطوير سياسات واضحة لرفع كفاءة المعلمين ودعم الأسر المصرية. فالتعليم الجيد ليس ترفاً، بل ضرورة لبناء أجيال قادرة على مواجهة تحديات المستقبل وتحقيق التنمية المستدامة.