مع حلول موسم المدارس في مصر، تتجه أنظار ملايين الأسر إلى الأسواق لتأمين مستلزمات التعليم لأبنائها. لكن داخل هذا المشهد العام، تبرز معاناة شديدة الخصوصية لأسر المعتقلين السياسيين، الذين يعيشون عامًا دراسيًا جديدًا مثقلاً بالتحديات. فبينما يواجه أغلب المصريين ضغوط الغلاء، فإن هؤلاء يواجهون عبئًا مضاعفًا: غياب المعيل خلف القضبان، وتكاليف متصاعدة، وحاجة لا يواجهونها إلا برؤوس مرفوعة وصدور مشدودة، رافضين مدّ أيديهم للغير.

 

أعباء النفقات التعليمية

الأرقام وحدها تكشف فداحة الكلفة. الزي المدرسي الذي تفرضه المدارس الحكومية يتراوح بين 400 و600 جنيه للتعليم الابتدائي والإعدادي، ويصل إلى 800 جنيه للثانوي. ومع إضافة الحقائب والأحذية والملابس الداخلية، تصل احتياجات الطالب الواحد إلى ما بين 1000 و2000 جنيه.

"أم محمد"، زوجة معتقل منذ أكثر من 12 عامًا، تصف معاناتها قائلة: "معي ولد في المرحلة الثانوية وابنة بالجامعة وأربعة أحفاد في الابتدائي. كل عام نعجز عن توفير الزي والمستلزمات. احتياجات كل طفل تصل إلى ما يعادل راتب موظف متوسط". وتضيف أنها تضطر لتوفير مبالغ إضافية للجامعة، حيث دفعت 15 ألف جنيه لتقليل اغتراب ابنتها بعد أن جاءها التنسيق في محافظة بعيدة.

المصروفات الدراسية نفسها تتراوح بين 200 و500 جنيه، فيما تتحول الدروس الخصوصية إلى نزيف شهري: أقل درس لا يقل عن 500 جنيه، والكتاب الخارجي يتراوح بين 150 و600 جنيه، خاصة لطلاب الثانوية العامة.

 

غياب المعيل وتضاعف الأعباء على الأمهات

غياب الأب المعتقل يلقي بالمسؤولية كاملة على الأمهات. تقول "أم محمد" إنها إلى جانب إدارة بيتها وزيارات السجون الثلاثة شهريًا، اضطرت إلى العمل بالتجارة البسيطة لتغطية التكاليف، بينما لجأت ابنتاها إلى التدريس رغم ضعف العائد. وتصف ذلك بقولها: "لم نمد يدنا لأحد، حتى لو اضطررنا للعمل ليل نهار".

 

معاناة الجامعات والاغتراب

طلاب الجامعات من أبناء المعتقلين يواجهون وضعًا لا يقل قسوة. فالتنسيق الجامعي قد يفرض على بعضهم السفر لمحافظات بعيدة، ما يعني تكاليف إضافية للسكن والمعيشة. ويشير تقرير لمؤسسة "جوار" الحقوقية إلى أن عددًا من أبناء المعتقلين لجأوا إلى العمل الجزئي لتأمين مصاريف الدراسة، بينما اضطر آخرون للاستغناء عن الدروس الخصوصية والاعتماد على جهودهم الذاتية.

 

مظاهر العزة والتعفف

رغم شدة الحاجة، تتمسك هذه الأسر بالعزة. إحدى الأمهات روت أنها رفضت مساعدة مباشرة من أحد معارفها، ما اضطره للتحايل عبر تاجر جملة يورد لها البضاعة، فكان يغالي في الحساب ليمنحها سلعًا دفعت قيمتها يد خفية. هذه المواقف تجسد ما وصفه القرآن: "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف".

 

صمود الأبناء وتفوقهم الدراسي

المفاجأة التي ترصدها شهادات حقوقية أن أبناء المعتقلين، رغم هذه الظروف، يحققون تفوقًا ملحوظًا. يقول الناشط الحقوقي (م. ع): "معظم أبناء المعتقلين في صدارة المتفوقين، وهذا انعكاس لصبر الأمهات وكفاح الأسر". هذه النتيجة لا تعكس فقط قدرة على التحمل، بل رسالة بأن الاعتقال لم يكسر الإرادة ولم يمنع استكمال المسيرة التعليمية.

وأخيرا ومع دخول موسم المدارس يكشف بوضوح حجم المأساة التي تعيشها أسر المعتقلين في مصر. أرقام النفقات مرهقة، وغياب المعيل يزيد الطين بلة، والضغوط النفسية لا تقل عن المادية. لكن وسط هذا كله، تصر هذه الأسر على أن تعيش بكرامة، مرفوعة الرأس، متعففة عن طلب العون. ورغم ما تحمله من أوجاع، فهي تقدم نموذجًا للصمود الإنساني، وتترك للأبناء فرصة ليثبتوا أن غياب الآباء خلف القضبان بسبب دفاعهم عن وطنهم وموقفهم البطولي ضد رفض الظلم لا يعني غياب المستقبل.