في 17 سبتمبر 1978، وقّع الرئيس أنور السادات ورئيس وزراء الكيان الإسرائيلي مناحم بيغن على "اتفاقيات كامب ديفيد" بوساطة الرئيس الأميركي جيمي كارتر، لتؤدي لاحقًا إلى توقيع معاهدة سلام بين البلدين في 26 مارس 1979.

أحداث تلك الأيام صيغت على أنها "السلام" الأول بين دولة عربية والكيان الإسرائيلي، لكن مرور 47 عامًا يكشف أن ما تحقق كان اتفاقًا استراتيجيًا محدود الفائدة للشعب المصري، ومربحًا سياسياً وعسكريًا لأطراف دولية وإقليمية أكثر منه سلامًا عادلًا شاملًا.

هدفت الاتفاقية آنذاك إلى استعادة سيناء المصرية مقابل اعتراف مصر بالاحتلال الإسرائيلي ووقف القتال المباشر.

 

السلام؟ واقع مفارق وآثار سلبية مستمرة

رغم استعادة مصر شبه جزيرة سيناء، فإن مؤيدي الاتفاقية يؤكدون أنها أعادت لمصر مكانتها على خريطة السلام الدولية، إلا أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي لمصر شهد تراجعًا حادًا منذ الاتفاقية، إذ تشير بيانات رسمية إلى أن أكثر من 50% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر، مع تفاقم مشكلات البطالة وتدهور الخدمات العامة.

كما أن قيود الاتفاقية على القوات المسلحة في سيناء حدّت من قدرات مصر الدفاعية، مما سمح لتصرفات الاحتلال الإسرائيلي بزعزعة أمن المنطقة.

 

تصريحات سياسية تعكس الجدل المستمر

السياسي المصري بهاء الدين أكد في مقابلات حديثة أن "اتفاقية كامب ديفيد تسببت في تراجع دور مصر إقليميا وعربيا، وأدت إلى فرض قيود صارمة على الجيش المصري في سيناء، في حين تمكنت إسرائيل من تعزيز تحالفاتها وتسليح جيشها بمساعدات أمريكية ضخمة".

بالإضافة إلى ذلك، تصاعدت الدعوات الشعبية لإلغاء الاتفاقية، خاصة بعد تفاقم التحولات الإقليمية وحروب الإبادة في المنطقة.

 

إخراج القوات من سيناء.. إنجاز عسكري وليس ضمانًا للأمن الشعبي

أحد بنود المعاهدة كان انسحاب إسرائيل من شبه جزيرة سيناء، وهو ما أُكمل رسمياً في 26 أبريل 1982، هذا الانسحاب يُعرض عادة كدليل على التزام الطرفين.

لكن الانسحاب بقي مرتبطًا بآليات مراقبة وبتنازل مصري عن سياسة مواجهة شاملة، ما مكّن إسرائيل من الاستفادة الاقتصادية (العبور المائي، أمن الغاز لاحقًا) وترك القاهرة مع مسؤولية أمنية وثمن سياسي دون حل للقضية الفلسطينية.

 

المال الأميركي.. "السلام" في مقابل مساعدات عسكرية سنوية

منذ توقيع المعاهدة، تحولت مصر إلى أحد أكبر مستوردي المساعدات العسكرية الأميركية؛ المعيار الشائع هو أن مصر تتلقى نحو 1.3 مليار دولار سنويًا من تمويل عسكري أُممي (FMF)، بينما مجموع المساعدات منذ 1979 يصل إلى عشرات المليارات.

غالبية الشعوب العربية الحرة يرون أن كامب ديفيد أسهمت في إدخال الاعتماد المالي على واشنطن كآلية لشرعنة النظام السياسي، ما جعل الحكومات المصرية المتعاقبة -بما فيها حكم السيسي- أكثر اهتمامًا بالحفاظ على علاقة جيدة مع إسرائيل والولايات المتحدة مقابل الاستمرار في ضخ المساعدات والتمويل العسكري.

 

السلام الرسمي أم صمت مدفوع بالمصالح؟ أثر الاتفاق على القضية الفلسطينية

اتفاقية كامب ديفيد لم تنجز حلًا للقضية الفلسطينية؛ فقسم كبير من نصوص الحماية والضمانات أعطيت أولوية للترتيبات الثنائية بين مصر والكيان الإسرائيلي، بينما بقي الفلسطينيون في موقع المشتكى إليه دون حقوق دولة أو حكومة رامية واضحة.

على الأرض، هذا تحوّل إلى "هدنة دائمة" بين مصر والكيان الإسرائيلي مع استمرار الاحتلال والتهجير والمعاناة في الضفة وغزة، ما يجعل سؤَال "هل حقق السلام؟" مجابهًا بأنّ الاتفاق حقق "استقرارًا مؤقتًا" على مستوى علاقة أُطراف الدولة وليس سلامًا عادلًا للشعوب.

 

توظيف "السلام" داخليًا.. شرعنة السلطة وقمع المعارضة

في البُعد الداخلي، استُغلت اتفاقية كامب ديفيد وامتيازات "السلام" لتبييض صفحة حكومات متسلطة أمام شركاء خارجيين.

نظام الانقلاب المصري بعد 2013، وتحت حكم السيسي، وظف العلاقات مع إسرائيل والولايات المتحدة لتحصين نفسه دبلوماسيًا وعسكريًا بينما تُقمع المعارضة والقوى المدنية داخليًا.

في حالات راهنة، واشنطن كانت تتجاوز أو تُخفف شروط حقوق الإنسان لصالح مصلحة أمنية إقليمية، كما حدث حين أُقرّ تجديد منح المساعدات العسكرية بمواقف تتصل بوساطات القاهرة في أزمات إقليمية.

هذا يضع السؤال الأخلاقي: هل كان "السلام" وسيلة سياسية لتثبيت نظم لا تجسد حكمًا ديمقراطيًا ولا تحقق العدالة لمواطنيها؟

 

الأرقام الحقيقية.. من استفاد فعليًا؟

أرقام المساعدات والتبادل تظهر أن القاهرة حصلت على دعم مالي وعسكري مستمر (نحو 1.3–1.4 مليار دولار سنويًا في السنوات الأخيرة وفق مصادر حكومية ومؤسساتية)، بينما لم يترجم ذلك إلى نمو اقتصادي اجتماعي مستدام أو حل لقضايا الفقر والبطالة والحقوق السياسية داخل مصر؛ بل إن كثيرًا من الموارد ذهبت لتعزيز القدرات الأمنية لا لإصلاح خدمات المواطن.

هذا التباين بين فائدة النخب ومآسي الجماهير يعتبر من أكثر دلائل فشل "السلام" إن كان الهدف منه ازدهارًا اجتماعيًا وقيميًا.

 

سلام العواصم أم سلام الشعوب؟

بعد 47 سنة، يمكن القول إن اتفاقية كامب ديفيد أنشأت "سلامًا" بين دولتين، بمعنى غياب الحرب المباشرة بين القاهرة وتل أبيب، لكنها لم تثبت معيار السلام العادل والشامل.

إذا كان السلام يقاس بالأمن الاجتماعي والحرية والعدالة، فالنقطة لصالح الشعوب لا تزال مفقودة، الفلسطينيون بلا دولة، والمصريون يعانون من قمع سياسي واقتصاد هشّ، والنظام المصري يستغل ورقة "السلام" شرعنةً دولية مقابل تنازلات داخلية.

لذلك، الأسئلة الحقيقية اليوم ليست عن تاريخ 17 سبتمبر فحسب، بل عن من ربِح ومن خسر، ولماذا بقي "السلام المزعوم" بعيدًا عن السقف الأخلاقي والسياسي الذي يحتاجه الشرق الأوسط.