في لحظة يصفها خبراء بأنها ذروة الارتهان الاقتصادي والسياسي، أعلنت شركة «شيفرون» الأميركية توقيع اتفاق مع شركة الغاز الإسرائيلية لزيادة ضخ الغاز إلى مصر عبر خط أنابيب جديد يمتد من الحقول الإسرائيلية وصولًا إلى سيناء. الصفقة التي رُوِّج لها باعتبارها حلًا لأزمة الطاقة التي تعصف بمصر منذ شهور، تكشف في جوهرها ثمنًا فادحًا يدفعه المصريون: رهن أمنهم الطاقي بيد عدو تاريخي.

 

من الاكتفاء إلى الارتهان

قبل أقل من عقد، كانت مصر تتباهى بتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي بعد اكتشاف حقل "ظهر" في البحر المتوسط. اليوم، وبعد سنوات من سوء الإدارة والفساد، تجد نفسها مستوردة للغاز من إسرائيل. المفارقة أن الغاز الإسرائيلي الذي يدخل عبر سيناء يُسوَّق داخليًا على أنه "مصري" بعد إعادة تسييله وإعادة تصديره، بينما الحقيقة أنه غاز عدو تحول إلى شريان حياة للاقتصاد المصري.

 

إسرائيل بلا مشترٍ إلا مصر

الصفقة تكشف بعدًا آخر: إسرائيل لا تجد سوقًا رئيسيًا لغازها سوى مصر. فالأردن يشتري كميات محدودة، وأوروبا ما زالت بعيدة بسبب تعقيدات النقل والكلفة. وهكذا تتحول مصر إلى المشترى الأهم وربما الوحيد للغاز الإسرائيلي، لتصبح سوقًا استراتيجية تضمن لإسرائيل تصريف إنتاجها. هذا الوضع يمنح تل أبيب ورقة ضغط إضافية، إذ باتت قادرة على التحكم في مصدر طاقة أساسي لمصر.

 

إنقاذ للنظام لا للمواطن

الحكومة المصرية تسوّق الاتفاق على أنه "حل لأزمة الكهرباء"، لكن الواقع أن الانقطاعات المستمرة لا تُحل جذريًا، بل يجري ترحيل الأزمة مؤقتًا لإنقاذ النظام من الغضب الشعبي. الكاتب الصحفي وائل قنديل يرى أن الصفقة "مكافأة لإسرائيل في توقيت تمارس فيه الإبادة في غزة"، ويصفها بأنها "خيانة مقنّعة تُباع تحت لافتة إنجاز اقتصادي".

الباحث عمار علي حسن بدوره يؤكد أن "الاعتماد على الغاز الإسرائيلي يفرغ السيادة الوطنية من مضمونها، لأن أي قرار سياسي في القاهرة سيكون رهينة لأنبوب غاز قادم من تل أبيب".

 

ثمن العمالة

المعارضون يربطون الصفقة بمسار طويل من التنازلات: من التنازل عن تيران وصنافير، إلى التطبيع الاقتصادي، وصولًا إلى رهن قطاع الطاقة بيد إسرائيل. الدكتور نادر نور الدين علّق بأن "مصر تمتلك حقولًا قادرة على سد احتياجاتها إذا أُديرت بكفاءة وشفافية، لكن السياسات الحالية تدفعها دفعًا إلى الاعتماد على الغاز الإسرائيلي".

هذا "الاعتماد" يعني عمليًا أن بقاء النظام السياسي مرتبط باستمرار تدفق الغاز من إسرائيل، وهو ما يصفه المعارضون بـ"ثمن العمالة".

 

التناقض مع غزة

الأخطر أن الصفقة تأتي بينما تخوض إسرائيل حرب إبادة ضد غزة. في الوقت الذي تُقصف فيه المستشفيات والمدارس، توقع القاهرة عقدًا لمد خط أنابيب جديد مع المعتدي. هذا التناقض يثير غضبًا شعبيًا واسعًا: كيف يمكن أن تُستَقبل جثامين الأطفال في رفح، بينما يُستَقبل الغاز الإسرائيلي في العريش؟

 

استقلال مفقود

اتفاق الغاز الأخير ليس مجرد صفقة تجارية، بل إعلان صريح عن فقدان مصر لاستقلالها الطاقي والسياسي. فبينما تُصدّر الحكومة القصة باعتبارها "إنجازًا"، يقرأها المواطنون كدليل جديد على أن "القرار الوطني مرهون بأنبوب غاز إسرائيلي".

ويبقى السؤال: هل يمكن لدولة كانت رائدة في الطاقة أن تتحول إلى مستورد وحيد من عدوها التاريخي؟ وما الذي سيحدث إذا قررت إسرائيل غدًا أن تستخدم "سلاح الغاز" للابتزاز السياسي؟

حتى الآن، يبدو أن النظام اختار أن يعيش على "التنفس الصناعي" القادم من تل أبيب، مهما كان الثمن. والثمن في النهاية يُدفع من جيوب المصريين وكرامتهم، لا من خزائن السلطة.