في سابقة تعكس حجم الأزمة، خرج وزير الموارد المائية والري هاني سويلم بتصريح صادم يؤكد أن زراعة القمح في الصحراء ليست أولوية، وأن "امتلاك الدولار" أهم من تحقيق الاكتفاء الذاتي من المحصول الاستراتيجي الأول للمصريين. التصريح، الذي جاء على هامش ندوة نظمها مجلس الأعمال المصري الكندي ومجلس الأعمال المصري للتعاون الدولي بعنوان "التحديات المائية في مصر.. الأسباب والحلول"، ليس مجرد وجهة نظر تقنية، بل بمثابة اعتراف رسمي بأن مصر فقدت القدرة على تأمين احتياجاتها الغذائية بسبب ضياع حقوقها التاريخية في مياه النيل.
سياسات متناقضة
الحكومة تروّج منذ سنوات لمشروعات زراعية كبرى مثل "توشكى"، "الدلتا الجديدة"، و"مستقبل مصر الزراعي"، بدعوى تحقيق الاكتفاء الذاتي. غير أن تصريح وزير الري ينسف هذه الخطط، كاشفًا أن التوجه الحقيقي هو زراعة محاصيل أقل استهلاكًا للمياه، مثل الخضروات والفاكهة، لتصديرها وجلب الدولار، في حين يظل القمح في ذيل الأولويات رغم كونه عصب رغيف الخبز. هذا التضارب يطرح سؤالًا محوريًا: ما جدوى إنفاق المليارات على استصلاح الأراضي إذا كانت النتيجة النهائية خدمة أسواق التصدير لا موائد المصريين؟
صوت الخبراء
الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الأراضي والمياه بجامعة القاهرة، وصف تصريحات الوزير بأنها "تسليم كامل بفشل الدولة في حماية حقوقها المائية"، محذرًا من أن "الاعتماد على استيراد القمح سيضع الأمن الغذائي المصري رهينة تقلبات السوق العالمي وابتزاز الدول المصدرة".
أما الباحث السياسي عمار علي حسن، فاعتبر أن ما يجري هو انعكاس مباشر لـ"سيطرة منطق الريع والدولار على عقل السلطة"، مؤكّدًا أن "الأنظمة الاستبدادية ترى في رغيف الخبز مجرد بند اقتصادي، بينما هو في الحقيقة قضية أمن قومي تتعلق بكرامة المواطن وحقه في الحياة".
الكاتب الصحفي وائل قنديل ذهب أبعد من ذلك في مقالاته الأخيرة، معتبرًا أن تصريحات الوزير ليست مجرد رؤية فنية، بل "كشف فاضح لفلسفة الحكم التي تضع الدولار فوق الإنسان، وتستبدل فكرة الاكتفاء الذاتي بمقامرة خطيرة على حساب الجوعى والفقراء".
وإذا عدنا إلى التاريخ، نجد أن الجيولوجي الراحل رشدي سعيد حذّر مرارًا من سوء إدارة الموارد المائية في مصر، وكتب أن "إهمال التخطيط الاستراتيجي للمياه سيحوّل النيل من مصدر للحياة إلى مصدر للأزمات". اليوم تبدو تحذيراته أقرب ما تكون إلى نبوءة تتحقق بالحرف.
سيطرة عسكرية وتهميش للفلاحين
التصريح يفتح الباب أيضًا على دور المؤسسة العسكرية التي باتت لاعبًا رئيسيًا في المشروعات الزراعية الكبرى. الجيش يسيطر على مساحات هائلة من الأراضي المستصلحة، ويحدد نوعية المحاصيل المزروعة، ما يجعل الزراعة أداة للربح والسيطرة أكثر منها وسيلة لتحقيق الأمن الغذائي. النتيجة: تهميش صغار الفلاحين، وإبعادهم عن القرار الزراعي، لصالح خطط تصديرية تصب في جيوب الدولة لا في بطون المواطنين.
الدولار فوق رغيف العيش
مصر اليوم أكبر مستورد للقمح في العالم. ومع كل أزمة دولية – من حرب أوكرانيا إلى اضطرابات سلاسل الإمداد – يجد المواطن نفسه أمام ارتفاع أسعار الخبز ونقص المعروض. هنا يصبح تصريح الوزير خطيرًا: الدولة تراهن على جني الدولار من محاصيل تصديرية لتغطية فاتورة استيراد القمح، لكن الكلفة دائمًا أعلى، والمخاطر أكبر.
اعتراف بالفشل
تصريح هاني سويلم هو أول اعتراف علني من مسؤول بحجم وزير بأن الاكتفاء الذاتي من القمح أصبح حلمًا بعيد المنال. لكن الأخطر أنه يفضح غياب رؤية متماسكة: مشروعات بمليارات الجنيهات تُسوَّق على أنها من أجل "الأمن الغذائي"، بينما القرار السياسي يوجّهها نحو "الأمن الدولاري".
أسئلة معلقة
يبقى السؤال: ما قيمة "المشروعات القومية" إذا كان وزير الري نفسه لا يرى جدوى من زراعة القمح؟ هل يمكن أن يكون الدولار أهم من رغيف العيش؟ ومن يتحمل مسؤولية ضياع الحق التاريخي لمصر في مياه النيل الذي قاد لهذه الكارثة؟
الواقع أن الاعتراف بالفشل لا يعفي المسؤولين من تبعات سياساتهم، بل يضعهم في مواجهة مباشرة مع شعب يزداد جوعًا وفقراً. مصر لا تحتاج إلى محاصيل تصديرية لتزيين التقارير الاقتصادية، بل إلى سياسة شجاعة تضع الإنسان قبل الدولار.