لم يعد استغلال مآسي الفلسطينيين حكرًا على الاحتلال، بل صار جزءًا من "بيزنس" يشارك فيه مقربون من السلطة المصرية وعلى رأسهم رجل الأعمال والزعيم القبلي إبراهيم العرجاني، الذراع الاقتصادية للنظام الحالي. فبعد الفضيحة المدوية التي كشفت تورطه عبر شركته "هلا للسياحة" في السمسرة على تصاريح عبور النازحين من غزة لمعبر رفح مقابل مبالغ وصلت إلى عشرة آلاف دولار للفرد، تتواصل السمسرة اليوم بشكل أكثر اتساعًا وشراسة، لتشمل كل فلسطيني يريد دخول مصر من أي مكان في العالم.
كل ذلك يجري تحت رعاية أجهزة سيادية مرتبطة مباشرة بالسيسي، الذي حوّل الأمن القومي إلى أداة للابتزاز المالي والفساد الممنهج.
من عبور رفح إلى "بيزنس الموافقات الأمنية"
وفي تقرير نقله أحد المسئولين وكشف فيه النقاب عن فضيحة جديدة: الفلسطينيون باتوا مضطرين لدفع مبالغ تصل إلى 1500 دولار للحصول على "موافقة أمنية" تتيح لهم دخول مصر.
هذه الموافقة التي يفترض أن تمنح مجانًا ضمن إجراءات التأشيرة في السفارات المصرية، صارت بفضل الوسطاء وشركات مثل "هلا" للعرجاني و"مشتهي" و"رويال ستار" و"حنيف"، مصدر ثراء غير مشروع يُقسم بين السماسرة وضباط الأجهزة السيادية.
الفساد لم يتوقف عند رفع المبلغ من 200 دولار قبل أكتوبر 2023 إلى 1500 دولار حاليًا، بل تحوّل إلى نظام محكم يختصر مدة الانتظار من ثلاثة أشهر إلى ثلاثة أيام، ويحوّل الرفض المعتاد إلى قبول مضمون بمجرد الدفع.
إذلال الفلسطينيين مقابل "العبور"
ووفق شهادات رصدتها "منظمات حقوقية، عائلات فلسطينية حُرمت من لمّ شملها، وأشخاص مقيمون بمصر فقدوا حق العودة إلى الخارج والرجوع مجددًا إلا بعد دفع المبالغ الباهظة.
مأساة إنسانية تُستغل بأبشع صورة: إذا لم يدفع الفلسطيني ألفًا وخمسمائة دولار، فعليه أن ينتظر شهورًا ينتهي أغلبها بالرفض.
والأدهى أن الموافقة الأمنية، التي كانت تقتصر سابقًا على الفئة العمرية من 18 إلى 40 عامًا، أصبحت تشمل جميع الفلسطينيين بلا استثناء.
ما يكشف أن الهدف لم يعد "الهاجس الأمني"، بل الهاجس المالي القائم على استنزاف اللاجئين والمحاصرين.
كل شيء قابل للسمسرة
تحولت الموافقة الأمنية من إجراء إداري يفترض أنه يحمي الدولة من مخاطر مفترضة، إلى باب واسع للفساد.
فلو كان هناك بالفعل تهديد من دخول بعض الفلسطينيين، هل سيدفع 1500 دولار كفيلًا بتحويلهم إلى "مواطنين صالحين"؟
المنطق يفضح الادعاءات الأمنية، ويؤكد أن ما يحدث ليس سوى عملية نهب منظم على حساب مأساة شعب منكوب.
ما كان أحد ليتصور أن الأجهزة المنوط بها حماية الأمن القومي ستنحدر إلى هذا المستوى من استغلال المعاناة، وتحويلها إلى سلعة في سوق سوداء.
لكن ما يجري يؤكد أن النظام الحالي درّب ضباطه على الانتفاع من كل ملف، وكسر الخطوط الحمراء الإنسانية والسياسية.
اللعب بالأمن القومي وتحويله إلى "بزنس"
هذه الفضيحة تعيدنا إلى أصل الأزمة: غياب الرقابة والمساءلة في ظل احتكار السيسي وأجهزته لكل السلطات.
عندما يُمنح ضابط أو جهاز سيادي صلاحية مطلقة، فإن النتيجة الحتمية هي تسليع الخدمة وبيعها لمن يدفع أكثر.
والسؤال المشروع هنا: أين تذهب هذه الأموال؟ هل تدخل خزينة الدولة؟ أم تُغسل في العقارات والحسابات السرية؟
الأخطر أن تعويد الضباط على "البيع والشراء" يفتح الباب لاختراقات أمنية خطيرة في المستقبل، خاصة مع سعي إسرائيل الدائم لاختراق مؤسسات خصومها.
أما ابتزاز الفلسطينيين ماليًا، فقد صار وصمة عار على جبين كل متورط، من رأس النظام حتى أصغر ضابط قبض ثمن توقيع على ورقة دخول.
وأخيرا فما يحدث اليوم ليس سوى امتداد لنهج السيسي في تحويل كل شيء إلى "بيزنس"، من قوت المصريين إلى مآسي الفلسطينيين.
وبينما يُحرم الأشقاء من زيارة أقاربهم أو العلاج أو حضور جنازة قريب، يجدون أنفسهم فريسة لسمسرة لا ترحم، يقودها مقربون من الرئاسة، ويغطيها صمت رسمي فاضح.
إنها جريمة مكتملة الأركان، عنوانها: إفقار الفلسطينيين وتلويث صورة مصر، وبطلها العرجاني ومن يقف خلفه في قمة السلطة.