لم تعد قصة تأسيس الإسكندرية مرتبطة فقط بالإسكندر الأكبر الذي دخل مصر عام 331 قبل الميلاد، بل تكشف اكتشافات أثرية ودراسات علمية حديثة أن لهذه المدينة الساحلية جذورًا أعمق بكثير، تعود إلى عصور الفراعنة وربما قبلها بقرون طويلة.

ففي ميناء أبو قير بالإسكندرية، انتشلت بعثة أثرية مصرية تمثالًا من الكوارتز على هيئة أبي الهول، منقوشًا عليه اسم التتويج للملك رمسيس الثاني (1279 – 1213 ق.م)، ليشكل دليلًا ماديا جديدًا يدعم فرضية أن الموقع الذي قامت عليه الإسكندرية لم يكن أرضًا بكرًا حين وطأها الإسكندر الأكبر، بل كان عامرًا بأنشطة بشرية وصناعية منذ عصور مبكرة.

هذا الاكتشاف يأتي متناغمًا مع ما أثبته فريق فرنسي في علم الجيوأركيولوجي قبل نحو 19 عامًا، حين كشف الباحثون آلان فيرون وزملاؤه من جامعة إيكس-مارسيليا عبر تحاليل رسوبية أن نشاطًا بشريًا وصناعيًا وُجد في خليج الإسكندرية منذ عصر الدولة القديمة (حوالي 2500 – 2300 ق.م).
 

الرصاص.. البصمة الصامتة للحضارة
اعتمد العلماء في دراستهم على التحليل الجيوكيميائي للرسوبيات، واضعين فرضية أن أي نشاط صناعي – مثل صهر المعادن – يترك أثرًا من التلوث بالرصاص. وقد أثبتت النتائج أن تركيزات الرصاص في رسوبيات الإسكندرية القديمة تجاوزت المستويات الطبيعية (2 – 3 أجزاء في المليون) لتصل إلى أكثر من 6 أجزاء في المليون خلال عصر الدولة القديمة، ثم ارتفعت إلى نحو 20 جزءًا في المليون خلال فترة الرعامسة، وهو ما يطابق فترة ازدهار عهد رمسيس الثاني ونشاطاته البحرية.

ومع قدوم الإسكندر الأكبر، قفزت النسب بشكل غير مسبوق، حيث ارتفعت إلى أكثر من 200 جزء في المليون، لتصل في العصر الروماني لاحقًا إلى حوالي 600 جزء في المليون، وهي من أعلى القيم التي وُثقت عالميًا في موانئ العصور القديمة.
 

قرية "راكوطيس" أصل الحكاية
تؤكد المصادر التاريخية، ومنها كتابات بلوتارخ وأريانوس، أن الإسكندر حين وصل إلى الساحل المصري لم يؤسس مدينة من العدم، بل وجد قرية قديمة تُعرف باسم "راكوطيس".

ويقول الباحث المصري جمال العشيبي (جامعة إيكس-مارسيليا) إن الإسكندرية قبل الإسكندر ربما لم تكن المدينة الضخمة التي نعرفها اليوم، لكنها كانت على الأرجح مركزًا ساحليًا ذا جذور فرعونية عميقة، أعاد الإسكندر تخطيطه وتوسيعه ليحمل اسمه لاحقًا ويصبح إحدى عواصم المتوسط.
 

شهادات الخبراء
المؤرخ وعالم المصريات بسام الشماع يرى أن العثور على تمثال رمسيس الثاني في ميناء أبو قير يتناغم مع الأدلة الجيوكيميائية السابقة، مضيفًا أن فترة رمسيس الثاني اتسمت بازدهار صناعي وبحري واسع، ما يجعل وجود تمثال بهذا الموقع دليلًا إضافيًا على أن الإسكندر ورث مدينة قائمة بالفعل.

أما آلان فيرون، صاحب الدراسة الفرنسية الشهيرة عام 2006، فعبّر عن سعادته بالاكتشاف، واعتبره "حلقة مفقودة" تربط نتائجه الكيميائية بالأدلة الأثرية المادية. وأكد أن تعزيز هذه الفرضية يتطلب المزيد من العينات الرسوبية عالية الدقة، خصوصًا من بحيرة مريوط القادرة على حفظ طبقات تاريخية أوضح.
 

نحو كتابة تاريخ جديد للإسكندرية
يذهب باحثون إلى أن هذه الاكتشافات تعزز فكرة أن الإسكندرية ليست مجرد مدينة أسسها الإسكندر الأكبر، بل هي موقع حضاري متجذر، شهد مراحل متعددة من التطور الإنساني والبيئي، من قرية فرعونية صغيرة إلى عاصمة متوسطية كبرى.

ومع استمرار الدراسات الجيوأركيولوجية والجيوكيميائية، قد يُعاد قريبًا رسم الخط الزمني لتاريخ الإسكندرية، بما يثبت أنها ليست فقط مدينة الإسكندر، بل مدينة الفراعنة والبحر والصناعة منذ آلاف السنين.

https://www.youtube.com/watch?v=XLrftkNnPIU