منذ سنوات طويلة، تتكرر في الخطاب الرسمي المصري عبارات رنانة عن حرية الإعلام وحق المواطنين في التعبير عن آرائهم دون قيود.
وفي مقدمة هذه التصريحات تأتي كلمات السيسي نفسه، إلى جانب تصريحات إعلاميين ومسؤولين مقربين من السلطة مثل أحمد المسلماني، الذين يؤكدون باستمرار أن الدولة لا تعادي الصحافة وأن "حرية الرأي مكفولة".

غير أن الواقع اليومي الذي يعيشه الصحفيون والنشطاء والمعارضون يكذب تماماً هذه الشعارات، ويكشف فجوة واسعة بين الخطاب الرسمي والممارسة الفعلية على الأرض. 
 

تصريحات للاستهلاك السياسي
حين يتحدث السيسي عن حرية الإعلام، فإنه يربطها دائماً بـ"المسؤولية الوطنية" و"حماية الدولة من الشائعات"، وهو ما يحوّل الحرية إلى مجرد ديكور سياسي مشروط بالولاء للسلطة.
أما المسلماني، فيطل بين حين وآخر مذكراً بأن مصر "لا تعاني من أزمة حرية رأي"، وأن المشهد الإعلامي مفتوح أمام الجميع، متجاهلاً واقع عشرات المواقع الإلكترونية المحجوبة، والقنوات التي جرى إغلاقها أو السيطرة عليها، والصحف التي لم يعد مسموحاً لها بنشر رأي مخالف.

هذه التصريحات لا تعدو كونها محاولات لتجميل صورة النظام أمام الداخل والخارج، خصوصاً في أوقات يتصاعد فيها النقد الدولي لسجل مصر في حقوق الإنسان.
فالمفارقة أن أكثر من يتحدث عن "حرية الإعلام" هم أولئك الذين يباركون القوانين المقيدة لها، ويمتنعون عن التضامن مع زملاء لهم يقبعون خلف القضبان فقط لأنهم مارسوا عملهم الصحفي. 
 

واقع الحجب والسجون
البيئة الإعلامية في مصر اليوم لا تسمح إلا بصوت واحد، هو صوت السلطة.
أكثر من 600 موقع إلكتروني، وفق منظمات حقوقية، تم حجبها خلال الأعوام الماضية، تشمل منصات إخبارية مستقلة، وصفحات لرأي معارض، وحتى مواقع تقدم خدمات تقنية أو ثقافية لم تسلم من الحجب.
وفي الوقت ذاته، تم إغلاق قنوات فضائية وإخضاع الصحف الكبرى لإدارة واحدة شبه رسمية، بحيث لم يعد الاختلاف ممكناً إلا في حدود مرسومة بعناية.

 أما الصحفيون، فقد أصبحوا الحلقة الأضعف في معادلة الإعلام. مئات الانتهاكات رُصدت بحقهم، من بينها الاعتقال التعسفي، والمنع من السفر، والملاحقات القضائية بتهم "نشر أخبار كاذبة" أو "الانضمام إلى جماعة إرهابية".
أسماء عديدة مثل إسماعيل الإسكندراني، هشام جعفر، وعبدالناصر سلامة، تمثل نماذج صارخة لصحفيين دفعوا ثمن الكلمة المستقلة.
هؤلاء لا يجدون صدى في تصريحات السيسي أو المسلماني، بل يتم تجاهلهم وكأن وجودهم لا يعني شيئاً.
 

 تناقض الخطاب والممارسة
التناقض بين ما يُقال وما يُمارَس أصبح واضحاً للعيان. ففي الوقت الذي تُرفع فيه شعارات "الإعلام الحر"، يتم التضييق على أبسط صور التعبير، حتى على وسائل التواصل الاجتماعي.
شباب وناشطون جرى اعتقالهم بسبب تدوينات على "فيسبوك" أو "تويتر"، فيما يُحاكم آخرون أمام محاكم استثنائية لمجرد أنهم عبروا عن موقف سياسي مخالف. هذه ليست حرية، بل قمع ممنهج يلبس ثوب القانون.

 الأدهى أن النظام لا يكتفي بالقمع المباشر، بل يصنع بيئة من الترهيب الذاتي، حيث يدرك الصحفي أو الكاتب أن مجرد نشر مقال أو تغريدة قد تقوده إلى السجن.
وهكذا يُقتل الإبداع النقدي من جذوره، وتتحول الصحافة إلى نشرات ترويجية لا دور لها سوى ترديد خطاب الدولة.
 

حرية الإعلام الحقيقية الغائبة
الحرية ليست منحة تمنحها السلطة متى شاءت وتسحبها متى أرادت، بل هي حق أصيل لا يتحقق إلا بوجود مؤسسات مستقلة وقوانين عادلة وضمانات حقيقية لحماية الصحفيين.
ما يحدث في مصر هو العكس تماماً: قوانين مقيدة مثل قانون مكافحة الإرهاب وقانون تنظيم الصحافة والإعلام، تُستخدم كعصا بيد السلطة لقمع كل رأي مخالف.

إن الادعاء بوجود حرية إعلامية في ظل هذه الظروف ليس سوى استهزاء بعقول المواطنين، وبيع للوهم على أنه واقع.
وإذا كان السيسي والمسلماني يرون أن الإعلام بخير، فإن الوقائع الموثقة والشهادات اليومية لضحايا القمع تقول غير ذلك.
فكيف تكون هناك حرية، بينما السجون تضم كتاباً وصحفيين لا ذنب لهم سوى أنهم رفضوا أن يكونوا أبواقاً؟ 

وأخيرا  ففي النهاية، تظل الحقيقة الأبرز أن تصريحات السيسي والمسلماني حول حرية الإعلام لا تعدو كونها محاولة لتزيين واقع قاتم.
الواقع يشهد على غياب التعددية، وقمع الصحافة المستقلة، وملاحقة النشطاء، وتحويل الإعلام إلى أداة بيد السلطة.
وبينما يروج الخطاب الرسمي لشعار "حرية مسؤولة"، فإن الممارسة الفعلية تكشف أن الحرية الوحيدة المسموح بها هي حرية التطبيل للنظام.

إن إنكار الأزمة لا يحلها، بل يعمقها.
ومصر، التي عرفت يوماً صحافة حرة ورجال قلم كباراً، تستحق إعلاماً حقيقياً يعبر عن الناس لا عن السلطة، ويكشف الحقائق بدلاً من أن يدفنها.
أما التصريحات المضللة، فلن تغيّر من حقيقة أن حرية الإعلام في مصر اليوم هي عنوان غائب، وحلم مؤجل.