في صفقة جديدة لبيع أراضي مصر، مماثلة لصفقة "رأس الحكمة" بين مصر والإمارات بالساحل الشمالي، شهد رئيس وزراء السيسي، مصطفى مدبولي، من العاصمة الإدارية الجديدة، توقيع مشروع "مراسي ريد" السياحي على مساحة 10.2 مليون متر مربع (2380 فدانا) بـ"خليج سوما" بالساحل الغربي للبحر الأحمر بشراكة سعودية إماراتية، 50 بالمئة لمؤسس شركة "إعمار" الإماراتي محمد العبار، والنسبة المتبقية لشركة "سيتي ستارز" للسعوديين حسن شربتلي، وفهد الشبكشي، باستثمارات 900 مليار جنيه (20 مليار دولار).
ولم تكشف تفاصيل الصفقة عن دور حكومة السيسي، ولا قيمة ما حصلت عليه مقابل الأرض في وضع الشراكة الجديد، ولا عن حقوقها المستقبلية في المشروع، ولم تجيب على تساؤلات المواطنين: هل للقاهرة شراكة بالمشروع، أم نسبة من الأرباح؟، وما الاختلاف بين تلك الصفقة وصفقة "رأس الحكمة"؟.
ويتخوف البعض من أن تذهب عوائد البيع، لسداد فوائد وأقساط ديون خارجية تتعدى 156.7 مليار دولار، بالربع الأول من 2025، كما جرى مع عوائد صفقة رأس الحكمة الموقعة فبراير 2024، والبالغة 35 مليار دولار.
وفي يناير الماضي، اعترف وزير المالية، أحمد كجوك، باستخدام صفقة رأس الحكمة، في خفض الدين قائلا: "خفضنا المديونية من 96 إلى 89 بالمئة من الناتج المحلي"، و"تراجع حجم الدين الخارجي بنحو 3 مليارات دولار".
وفي مارس الماضي، قالت رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي لمصر، إيفانا فلادكوفا هولار، إن مصر خصصت مبالغ إضافية من مشروع "رأس الحكمة" لخفض الدين.
ارتباط الصفقة بالتحركات الإقليمية
الصفقة الأخيرة التي وُقعت على ساحل البحر الأحمر، لم تمر مرور الكرام؛ إذ ربطها مصريون بتحركات سياسية إقليمية بارزة. فقد جاءت بعد نحو أسبوعين من زيارة رئيس الإمارات محمد بن زايد لمدينة العلمين الجديدة ولقائه بقائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي في 25 أغسطس الماضي، وبعد 4 أيام فقط من زيارة السيسي إلى مدينة نيوم السعودية ولقائه بولي العهد محمد بن سلمان.
مؤيدو الصفقة: إنعاش للسياحة
أنصار الصفقة يرون فيها فرصة لدعم قطاع السياحة، الذي يمثل نحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي، ويوفر مئات الآلاف من فرص العمل. ويقع المشروع الجديد على بعد 45 كيلومترًا من الغردقة، بالقرب من سفاجا، وعلى مقربة من “سهل حشيش” و”خليج مكادي”.
ويتوقع عاملون في قطاع السياحة أن يحدث المشروع طفرة في المنطقة، من خلال تنشيط حركة البناء والتشييد وتشغيل العمالة المحلية، فضلًا عن زيادة عوائد السياحة مستقبلًا.
معارضو الصفقة: بيع للأصول وتفريط بالسيادة
لكن في المقابل، يوجّه خبراء ومراقبون انتقادات حادة، معتبرين أن ما يجري ليس استثمارًا حقيقيًا بقدر ما هو بيع مقنّع للأصول الاستراتيجية. ويحذر هؤلاء من تغلغل وكلاء إسرائيليين في هذه الاستثمارات، مستندين إلى ما نشرته وسائل إعلام عبرية عام 2021 حول دعم المستثمر الإماراتي محمد العبار لمشروعات إسرائيلية بملايين الدولارات.
استثمارات عقارية بلا تنمية صناعية
جانب آخر من الانتقادات يتمثل في طبيعة هذه الاستثمارات الخليجية، التي تركز على العقار والمنتجعات والفنادق، بدل التوجه نحو الصناعة أو التكنولوجيا أو البحث العلمي. ويتساءل مصريون: “لماذا لا يُستثمر في التكنولوجيا العسكرية والطيران والذكاء الاصطناعي وتطوير التعليم، بدلًا من الاكتفاء بمنتجعات وفنادق؟”.
تشريعات تمهّد للبيع
وتأتي هذه الصفقة ضمن موجة أوسع من طرح الأراضي للأجانب. ففي يناير 2024 أقرّ البرلمان تعديلات قانون ملكية الأراضي الصحراوية، مانحًا الأجانب الحق في التملك أسوة بالمصريين.
كما أعلنت الحكومة في سبتمبر 2024 طرح خمس مناطق استراتيجية في البحر الأحمر للاستثمار، بينها “رأس بناس” وجزيرة “رأس جميلة”، قبل أن يخصّص السيسي في يونيو الماضي نحو 174 مليون متر مربع لصالح وزارة المالية للغرض ذاته.
تصريحات رسمية
رئيس الوزراء مصطفى مدبولي صرّح بأن “المنطقة الواعدة ستشهد المزيد من المشروعات قريبًا”، بينما كشف وزير الإسكان شريف الشربيني أن قيمة مخزون الأراضي والوحدات التي تم حصرها وتُطرح تباعًا تصل إلى تريليوني جنيه.
تحليل اقتصادي
الباحث الاقتصادي محمد نصر الحويطي أوضح أن الصفقة مرتبطة بالاتفاقيات الإقليمية الخاصة بالبحر الأحمر، وأن السعودية تسعى لتعزيز حضورها الاستثماري في الساحل الغربي للبحر. واعتبر أن المشروع سيدعم التنمية في المنطقة الجبلية الوعرة، ويفتح المجال أمام شراكات أخرى، خصوصًا مع إماراتيين في مناطق مثل “رأس بناس” و”رأس جميلة”.
لكنّه في الوقت ذاته أشار إلى غياب الشفافية، مؤكدًا أن القيمة الفعلية التي ستحصل عليها مصر غير معلنة، رغم الحديث عن رقم 900 مليار جنيه، بينما تبقى حصيلة مصر الدولارية غامضة، ما يثير تساؤلات عن تأثير الصفقة الحقيقي على الديون وسعر الصرف.
رفض شعبي متصاعد
على مواقع التواصل الاجتماعي، عبّر مصريون عن قلقهم من استمرار بيع الأراضي تحت شعار الاستثمار. وكتب المستشار طارق مقلد عبر فيسبوك: “لا للبيع المقنّع تحت شعار الاستثمار.. ما يجري هو انتزاع للأرض المصرية قطعة قطعة لصالح الأجانب بأبخس الأثمان”.
وأضاف أن الحديث عن تحويل البحر الأحمر إلى “موناكو” مجرد محاولة لتجميل صورة واقع أكثر خطورة، مؤكدًا أن مصر بحاجة لاستثمار صناعي وتنموي حقيقي يوفّر فرص عمل وينعش الاقتصاد، لا إلى صفقات عقارية تقتطع من جسد الوطن.
عوائد بيع أصل استراتيجي
وفي قراءة تحليلية أعمق، اعتبرت خبيرة التخطيط الاستراتيجي سالي صلاح أن الأموال المتحصلة من الصفقة ليست قرضًا أو منحة، وإنما عوائد بيع أصل استراتيجي. وأوضحت أن المستثمرين هم من سيديرون المشروع ويحصدون الأرباح من الفنادق والوحدات والخدمات، بينما تقتصر استفادة الدولة على الضرائب ورسوم التراخيص والجمارك وضرائب العمالة.
وأضافت صلاح أن القيمة المعلنة للصفقة، رغم ضخامتها، لا تكفي لسداد الدين العام ولا لخفض سعر الصرف بشكل مباشر، لكنها قد تساعد جزئيًا في تغطية عجز الموازنة، وتوفير سيولة مؤقتة، وتحسين صورة مصر كوجهة استثمارية أمام الخارج.
غير أنها شددت في المقابل على أن الأرباح التشغيلية ستذهب للمستثمرين لا للدولة، محذّرة من تركّز التنمية في منطقة محدودة على حساب بقية المناطق، ومن غياب استراتيجية واضحة لاستثمار العوائد في مشروعات إنتاجية أو صناعية تحقق قيمة مضافة.
واختتمت بقولها: “بيع الأصول ليس بديلًا عن التنمية المستدامة، ولا يمكن أن يشكّل حلًا طويل الأمد لأزمات الاقتصاد المصري”.