تتصدر مصر قائمة الدول في الشرق الأوسط من حيث معدلات الولادة القيصرية، وفق تقارير منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي. إذ تشير الأرقام إلى أن أكثر من 60% من الولادات في مصر تتم قيصريًا، مقارنةً بالنسبة الموصى بها دوليًا والتي لا تتجاوز 15%. هذا الارتفاع اللافت لم يعد مجرد "ظاهرة طبية"، بل تحول إلى أزمة صحية واجتماعية تكشف فشل المنظومة الطبية، وغياب سياسات حكومية جادة للحد من استسهال القيصرية، في وقت يزداد فيه الضغط على النساء والأسر، وتتحول الولادة الطبيعية إلى استثناء.

 

أسباب الظاهرة: بين الربح والخوف

يرى أطباء أن أهم أسباب الانتشار المفرط للقيصرية في مصر هو دافع الربح المادي لدى المستشفيات الخاصة، إذ إن تكلفة العملية القيصرية تزيد بمقدار الضعف أو أكثر عن الولادة الطبيعية. المستشفيات – في ظل غياب الرقابة – تدفع النساء مباشرة إلى الخيار الجراحي باعتباره "الأكثر أمانًا"، رغم أن الواقع عكس ذلك.

من جهة أخرى، هناك عامل ثقافي ونفسي، حيث تفضل بعض النساء "الراحة" من ألم الولادة الطبيعية، ويقمن بتحديد موعد العملية بما يناسب الظروف العائلية. هذا التفضيل الفردي، المدعوم بخطاب طبي تجاري، يعزز الزيادة غير الطبيعية في الأرقام.

كما أن ضعف تدريب الأطباء على الولادة الطبيعية، خاصة في المستشفيات الحكومية المتهالكة، جعل القيصرية هي الحل الأسهل لتقليل المخاطر المحتملة ولتفادي قضايا "الإهمال الطبي".

 

مخاطر صحية جسيمة

بحسب خبراء منظمة الصحة العالمية، الإفراط في العمليات القيصرية يؤدي إلى زيادة مخاطر النزيف، العدوى، المضاعفات طويلة المدى مثل التصاقات الأمعاء، وصعوبات الحمل لاحقًا.

الدكتورة منى مينا، وكيلة نقابة الأطباء السابقة، حذرت من أن مصر دخلت في دائرة خطرة، إذ تحولت الولادة القيصرية إلى "قاعدة"، ما يهدد أجيالًا كاملة من الأمهات بأمراض مزمنة ومضاعفات كان يمكن تفاديها. وأضافت أن هذه العمليات تستنزف ميزانيات الأسر الفقيرة، التي تضطر للاقتراض أو بيع ممتلكاتها لتغطية تكاليف الولادة.

 

السياسات الحكومية: الغياب المريب

في ظل هذه الأزمة، تقف وزارة الصحة والحكومة المصرية متفرجتين. ورغم تصريحات متكررة عن "الاهتمام بصحة المرأة"، إلا أن السياسات الفعلية على الأرض لا تتجاوز حملات توعية محدودة لا تصل إلى جمهور النساء في الريف والمناطق العشوائية.

الخبير الصحي إيهاب الخراط أوضح أن غياب رقابة صارمة على المستشفيات الخاصة جعلها تتحكم في القرار الطبي وفق منطق السوق، دون اعتبار لصحة الأم أو الطفل. وأشار إلى أن وزارة الصحة "تعجز" عن فرض نسب قيصرية آمنة أو متابعة تنفيذها.

أما الخبير الاقتصادي عادل عامر، فربط بين الظاهرة وخصخصة الخدمات الطبية، حيث تُدار الصحة كقطاع ربحي لا خدمي، مما جعل الأطباء يفضلون الجراحة لضمان عائد أكبر وسرعة في إنهاء الحالات.

 

شهادات وتعليقات

طبيبة النساء والتوليد هالة شكر الله أكدت أن التدريب على الولادة الطبيعية شبه غائب في المستشفيات الجامعية، وأن أجيالًا من الأطباء يخرجون من التعليم لا يجيدون سوى القيصرية.

في المقابل، عبّرت أمهات عبر مواقع التواصل عن غضبهن من إجبارهن على القيصرية. إحدى الأمهات كتبت: "قالولي الطفل كبير ومفيش ولادة طبيعية، وبعد العملية اكتشفت إن الطفل وزنه 2.8 كيلو بس". هذه الشهادات تكشف حجم التضليل الذي تواجهه النساء عند لحظة حاسمة.

 

كلفة اجتماعية واقتصادية

الإفراط في القيصريات لا يؤثر فقط على صحة النساء، بل يحمّل المجتمع كلفة اقتصادية هائلة. دراسة محلية أشارت إلى أن مصر تنفق ما يزيد عن 3 مليارات جنيه سنويًا على عمليات قيصرية غير ضرورية. هذه المبالغ يمكن أن توجه لتحسين وحدات الرعاية الأولية وتدريب الأطباء على الولادة الطبيعية. لكن في ظل سياسات السيسي، حيث تُدار الصحة بمنطق "المستثمر"، تبقى حياة النساء رهينة سوق جشع.

وأخيرا فمصر التي تتفاخر الحكومة بأنها "تضع المواطن محور التنمية" تواجه كارثة صحية حقيقية في قطاع الولادة. ارتفاع معدلات القيصرية إلى هذا المستوى ليس تقدمًا طبيًا، بل هو مؤشر فشل سياسي وإداري في حماية صحة النساء والأطفال. الحل لن يكون عبر شعارات أو حملات توعية فارغة، بل بفرض رقابة صارمة على المستشفيات، وتطوير تدريب الأطباء، وإعادة الاعتبار للولادة الطبيعية كحق إنساني وصحي. أما استمرار الوضع الحالي، فهو ليس فقط استهتارًا بصحة المرأة المصرية، بل جريمة مكتملة الأركان يرتكبها نظام السيسي بحق الأجيال القادمة.