منذ سنوات طويلة، يعيش آلاف العاملين بالوزارات والهيئات الحكومية في مصر تحت مسمى "عمالة مؤقتة"، أو كما يُطلق عليهم شعبيًا "العمالة باليومية"، هؤلاء الموظفون، الذين يشكّلون العمود الفقري للكثير من المصالح الحكومية، يعانون من غياب التثبيت والحقوق الأساسية، في ظل سياسات حكومية تتجاهل مصيرهم وتتعامل معهم كفئة ثانوية لا تستحق الاستقرار الوظيفي.
حجم الظاهرة غير معروف رسميًا… والمكتوب أكبر من المعلن
تشير التقديرات النقابية إلى أن عدد العاملين المؤقتين قد يتجاوز 600 ألف موظف، ينتمون إلى وزارات مثل التربية والتعليم، الصحة، الإسكان، والمحليات، بالإضافة إلى مؤسسات الصحافة القومية.
يعكس هذا العدد حجم المشكلة المتفاقمة، خاصة أن الجهاز المركزي للإحصاء لا يفرِّق رسميًا بين الدائمين والمؤقتين ضمن مليونيات الجهاز الإداري القومي.
شهادات من قلب الأزمة… "إهدار للجهد بلا حقوق"
يؤكد "محمد رمضان"، صحفي يعمل بعقد مؤقت في صحيفة قومية: "أغطّي أخبار الدولة ليلاً ونهارًا، لكن يُعاملنا الجميع كأننا عبء مؤقت يمكن الاستغناء عنه في أي لحظة."
وفي وزارة الصحة، تشير المعلمة المؤقتة "فاطمة عدلي" إلى أنها تعمل بعقد يتجدّد كل ثلاثة أشهر فقط، براتب لا يتجاوز ألفي جنيه، وبدون تأمين أو حوافز.
التشريعات موجودة… ولكن تطبيقها غائب
قانون الخدمة المدنية المصري (81 لسنة 2016) ينص على ضرورة التعيين عبر آليات رسمية مثل التنافس والاعتماد من وزارة التخطيط، لكن عدم وجود إرادة سياسية يعرقل فتح ملفات التثبيت.
يرى كرم صابر، الخبير العمالي، أن الحكومة تستخدم العقود المؤقتة كوسيلة للهروب من الالتزامات القانونية، بتبرير أن "الموظف المؤقت لا يملك حقًّا في التثبيت، وبالتالي يُعتبر آلية مرنة لتخفيف قيود التوظيف."
كما أشار مجلس الدولة إلى أن المؤقتين الذين يستمرون في العمل بانتظام، يمثّلون حالة تستوجب التثبيت القانوني، لكن هذا التوصيف لم يُرفق بجدول زمني للتنفيذ.
خطوات محدودة… وتثبيت جزئي فقط
في مايو، تم تثبيت بعض العمال المؤقتين في الشركة المصرية لتجارة الجملة الذين عُينوا عام 2019.
بينما جرى الإعلان في نوفمبر 2024 عن بدء حصر أوضاع حوالي 7 آلاف متعاقد قبل 2016 للدراسة للتثبيت، لكن حتى الآن لم تصدر أي خطوات تنفيذية ملموسة.
أثر اجتماعي كارثي
تحول هذه السياسة إلى مشكلة مجتمعية، بخاصة أن العامل لا يستطيع التقدّم بطلبات قروض أو الاستقرار المالي، ويتوقف على تجديد عقده بشكل دوري، ما يعيق تخطيط الحياة والاستثمار الشخصي.
يشرح الباحث الاجتماعي سعد هجرس أن استمرار هذه العقود لفترة طويلة يؤدي إلى تآكل الثقة بين المواطن والدولة، وتراجع الانتماء لدى الموظف، ما ينعكس سلبًا على الأداء الإداري في المستقبل.
أبعاد اقتصادية أكثر عمقًا
يعتمد عدد من الوزارات على شركات توريد لتجهيز العمالة المؤقتة، حيث يقتطع الوسطاء نسبة تصل إلى 40٪ من أجر العامل، ما يعرضه لانتهاك مزدوج: أقله المتوسط والأسوأ يعاني من ضعف الأجر مع لا مقابل من الحقوق.
الخلاصة: أزمة تستحق المعالجة لا التجميل
نهاية الحديث عن العمالة المؤقتة في الوزارات ليست مسألة إدارية فحسب، بل تمس جوهر العدالة الاستراتيجية في الدولة. العمل العام لا يتحقق باستنزاف الإنسان دون حقوق.
الحل يتطلب سياسة جادة لتثبيت هؤلاء العمال، بناءً على إنجازاتهم وخبرتهم، وليس الإبقاء على العامل "مؤقتًا حتى الممات".