لم يعد مشهد بكاء أولياء الأمور أمام أبواب المدارس الخاصة أمرًا نادرًا، بعد أن تحولت مصروفات التعليم إلى كابوس سنوي يلتهم دخول الأسر المصرية.
ومع ارتفاع الأسعار بصورة جنونية وتوسع المدارس الدولية في فرض مصروفات تلامس حاجز المليون جنيه، أصبح القرض البنكي أو التمويل الاستهلاكي هو الحل "المؤلم" الذي تدفع إليه الظروف.

هكذا انفتح الباب أمام البنوك وشركات التمويل الخاصة لتقديم عروض تقسيط المصروفات، في خطوة يصفها خبراء بأنها تعكس خصخصة التعليم وانسحاب الدولة من دورها التاريخي في حماية حق المواطن في تعليم ميسر.
 

تضخم الرسوم وضغط الطبقة الوسطى
يرى الدكتور كمال مغيث، الخبير التربوي والباحث بالمركز القومي للبحوث التربوية، أن ما يحدث اليوم "هو تدمير للطبقة الوسطى المصرية التي كانت تعتبر التعليم الخاص وسيلة لتحسين مستقبل أبنائها".
ويضيف أن "المدارس الخاصة والدولية أصبحت تفرض مصروفات لا تتناسب مطلقًا مع متوسط دخول المصريين، ما يضع الأسر أمام خيارين أحلاهما مر: إما الاستدانة، أو التضحية بجودة التعليم".
ويؤكد مغيث أن غياب الرقابة الحكومية على تسعير هذه المصروفات منح إدارات المدارس حرية مطلقة في رفع الأعباء على أولياء الأمور عامًا بعد عام.
 

التمويل الاستهلاكي.. حل قصير المدى أم فخ طويل الأمد؟
من جانبه، يوضح أحمد أسامة، العضو المنتدب التنفيذي لشركة "درايف للتمويل والخدمات المالية غير المصرفية"، أن "قطاع تمويل المصروفات المدرسية نما بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة، وصار يمثل نشاطًا متزايدًا رغم أنه أقل من 3% من سوق التمويل الاستهلاكي".
لكنه يعترف بأن تكلفة هذه القروض مرتفعة نسبيًا، إذ تصل الفائدة إلى نحو 25% متناقصة، ما يعني أن ولي الأمر الذي يقترض 100 ألف جنيه قد يسدد إجمالي 125 ألفًا.

ويضيف أسامة: "الطلب يتزايد حتى من شرائح الدخل العليا بعد التعويم الأخير، لأن التضخم المستمر أرهق الجميع".
 

انسحاب الدولة وخصخصة التعليم
أما الدكتور عادل عامر، أستاذ الاقتصاد ومدير مركز المصريين للدراسات الاقتصادية، فيرى أن "التوسع في قروض المصروفات الدراسية هو انعكاس مباشر لغياب دور الدولة في توفير تعليم حكومي جيد ومجاني".
ويشير إلى أن "أكثر من 2.5 مليون طالب هجروا المدارس الحكومية منخفضة التكاليف إلى مدارس خاصة، ما خلق سوقًا ضخمة استغلتها الشركات والبنوك".
ويضيف: "بدلًا من تطوير التعليم العام، تُركت الأسر وحيدة تواجه جشع المدارس وضغوط المعيشة بالاستدانة، وهو ما يزيد من الأعباء المالية على الاقتصاد الأسري ويضعف استقرار المجتمع".
 

البنوك تدخل على الخط... منافسة شرسة مع الشركات
ويؤكد محمد عبد العال، الخبير المصرفي وعضو مجلس إدارة بنك الاستثمار العربي سابقًا، أن البنوك لم تترك المجال للشركات وحدها، بل طورت برامج قروض تعليمية قد تصل إلى 9 ملايين جنيه، مع فوائد أقل بنحو 5% مقارنة بالشركات.
ويضيف: "هناك بنوك تقدم تخفيضات إضافية في الفائدة عند وجود تعاقد مباشر مع المدرسة أو الجامعة، بل وتطرح برامج تقسيط عبر بطاقات الائتمان دون فوائد لفترات قصيرة".

لكنه يحذر من أن "المشكلة الأساسية لا تزال قائمة، فحتى مع وجود خيارات تقسيط متعددة، يظل التعليم مرتفع الكلفة بشكل لا يتناسب مع متوسط دخول المصريين، ما يعني أن الأزمة بنيوية وليست مالية فقط".

ويكشف مشهد التنافس بين البنوك وشركات التمويل على قروض المصروفات عن صورة قاتمة للتعليم في مصر: سلعة تُشترى وتُقسط، لا حقًا مضمونًا من الدولة.

وبينما تتباهى بعض المدارس بارتفاع رسومها باعتبارها مؤشرًا على "الجودة"، يجد أولياء الأمور أنفسهم أمام خيار الاستدانة لسنوات من أجل دفع مصروفات تكاد تعادل ثمن عقار متوسط. وفي ظل تضخم جامح وغياب إصلاحات حقيقية للتعليم الحكومي، يبدو أن أزمة "قروض التعليم" مرشحة للتفاقم، لتبقى الأسرة المصرية هي الخاسر الأكبر بين جشع المدارس واختفاء الدولة.