منذ بدء بناء سد النهضة الإثيوبي، لم تتوقف الحكومة المصرية عن إطلاق تحذيرات عن "خطر العطش والجفاف" الذي يهدد البلاد.
لكن الحقيقة الصادمة التي يقر بها الخبراء اليوم أن الخطر الأكبر لم يأتِ من أديس أبابا، بل من القاهرة نفسها، حيث استخدم عبد الفتاح السيسي هذه القضية ذريعة للتنازل عن الحقوق التاريخية والتغطية على سياسات داخلية أرهقت الفلاحين وضيّعت العدالة المائية.
وبينما يتباهى النظام بمشروعات زراعية للتصدير، يجفف حقول الفلاحين الصغار ويترك ملايين المصريين يواجهون الغلاء والعطش.
سردية الخوف والتفريط في الحقوق
الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والخبير في الموارد المائية، يؤكد أن "مصر لم تتأثر فعليًا من الملء الأول أو الثاني أو الثالث لسد النهضة، بسبب الفيضانات العالية التي عوضت أي نقص محتمل".
لكنه يضيف أن "الخطأ الجسيم هو توقيع السيسي على اتفاق المبادئ عام 2015، الذي منح إثيوبيا شرعية بناء السد وحرَم مصر من أدوات الضغط القانونية".
هذا التوصيف يعكس بوضوح كيف أن النظام صنع مناخًا من التهويل الإعلامي للتغطية على تنازلات سياسية وقانونية خطيرة.
مشروعات تستهلك المياه على حساب الفلاحين
الدكتور ضياء الدين القوصي، مستشار وزير الري الأسبق، يرى أن "التهويل المستمر من السد استُخدم كغطاء سياسي لتمرير مشروعات تستنزف المياه".
ويضيف: "مشروع الدلتا الجديدة وغيره من مشروعات التوسع الزراعي الضخمة يستهلك مليارات الأمتار المكعبة من المياه التي كان من المفترض أن تذهب لصغار الفلاحين".
وبالفعل، بينما تُضخ المياه في أراضي الصحراء لمصلحة زراعة تصديرية، يشكو الفلاحون في الدلتا والصعيد من نقص مياه الري وجفاف أراضيهم.
الأمن الغذائي في مهب الريح
الدكتور رشاد عبده، الخبير الاقتصادي، يشير إلى أن "تحويل موارد المياه نحو زراعات تصديرية خلق تناقضًا صارخًا؛ فالدولة تتباهى بزيادة صادراتها الزراعية التي بلغت 7.4 مليون طن في 2023، بينما يعاني المواطن من تضخم غذائي وصل إلى أكثر من 60%".
ويضيف أن "هذه السياسة تعكس انحياز النظام لطبقة رجال الأعمال والمصدرين، على حساب الأمن الغذائي للمواطن البسيط".
وهكذا يصبح الخطر ليس في تقليص حصة مصر من النيل، بل في سوء توزيعها داخليًا.
الخطر الحقيقي داخلي لا خارجي
من جانبه، يقول الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة، إن "التهويل الإعلامي حول سد النهضة خدع الرأي العام، بينما تجاهلت الحكومة أن الفلاحين يُحرمون من حصصهم المائية لصالح مشروعات نخبوية".
ويؤكد أن "ما يجري اليوم ليس إلا سياسة مقصودة لإعادة توجيه الموارد المائية، وتهميش الزراعة التقليدية، وتحويلها إلى خدمة مشروع سياسي واقتصادي ضيق".
وبذلك يتضح أن التهديد لم يأتِ من سد النهضة بقدر ما جاء من إدارة فاشلة داخلية أهدرت حقوق المصريين في مياههم وأرضهم.
في النهاية، يمكن القول إن عبد الفتاح السيسي لم يفشل فقط في حماية حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، بل حول السد إلى ذريعة لتمرير سياسات مائية وزراعية ظالمة.
وبينما لم ينقص كوب ماء واحد من النيل، نزعت الحكومة المياه من أفواه الفلاحين وأراضيهم، لتصبها في مشروعات تصديرية تخدم قلة محدودة وتترك ملايين المصريين يواجهون الغلاء والعطش.
الحقيقة المؤلمة أن الخطر لم يكن يومًا في إثيوبيا، بل في سياسات السيسي التي فرّطت وأهدرت وأذلت الفلاحين.