في تحول مفاجئ وصادم، خرج الإعلامي مصطفى بكري، المقرب من الانقلاب وعضو مجلس النواب، ليقول إن "صندوق النقد الدولي خلاص مفيش تاني... معانا لغاية 2026 ونتكل على الله بخيرهم وشرهم".
تصريح قد يظنه البعض مجرد جملة عابرة، لكنه في الواقع اعتراف ضمني بفشل سياسات اقتصادية أنهكت المصريين وأغرقتهم في ديون لا نهاية لها.
الأخطر أن هذا الاعتراف جاء من أحد أبرز من هللوا للصندوق وبرامجه، قبل أن ينقلب عليه فجأة وكأن السنوات الماضية من التطبيل والوعود لم تكن.
تناقض فج في الخطاب
المفاجأة ليست في أن بكري يهاجم الصندوق اليوم، بل في التناقض الصارخ مع ما كان يقوله بالأمس.
فقد ظل الإعلام الرسمي، وعلى رأسه أمثال بكري، يروّج لشروط الصندوق باعتبارها "خلاصًا" و"طوق نجاة".
كانوا يقدمون رفع الدعم وزيادة الضرائب وتعويم الجنيه على أنها "قرارات شجاعة"، بينما كانت جيوب المواطنين تُنهب وأحلامهم تُسحق.
والآن، حين ظهرت نتائج الكارثة، يطل علينا بكري بخطاب جديد يبرئ السلطة من المسؤولية، ويلقي باللوم كله على الصندوق، وكأن حكومة الانقلاب لم تكن شريكًا أساسيًا في تنفيذ سياساته.
الجيش والخصخصة
هذا التحول المفاجئ في الخطاب الرسمي والإعلامي لا يمكن عزله عن الضغوط التي مارسها صندوق النقد الدولي على حكومة الانقلاب بخصوص شركات الجيش.
فالصندوق اشترط مرارًا خصخصة هذه الكيانات العملاقة، وإخراج المؤسسة العسكرية من السيطرة المباشرة على قطاعات الاقتصاد.
غير أن قائد الانقلاب السيسي ومعه قيادات الجيش رفضوا هذا المسار بشكل قاطع، لأنهم يعتبرون هذه الشركات مصدرًا أساسيًا للنفوذ والثروة.
لذلك جاء التململ من الصندوق ليس بسبب حرص النظام على الشعب، وإنما بسبب إصراره على حماية امتيازات الجيش الاقتصادية، حتى لو كان الثمن مزيدًا من الديون وتفاقم الأزمة المعيشية.
مسؤولون بدّلوا جلدهم
لم يكن مصطفى بكري وحده في هذا المسار. وزراء ومسؤولون كبار سبق أن امتدحوا الاتفاق مع الصندوق، من بينهم وزير المالية السابق محمد معيط الذي قال إن "برامج الصندوق تعكس الثقة الدولية في الاقتصاد المصري"، ووزير الاستثمار الأسبق أشرف سالم الذي اعتبر أن "التعاون مع الصندوق يفتح أبواب الاستثمارات".
هؤلاء أنفسهم، أو المقربون منهم، صاروا اليوم يتحدثون عن ضرورة البحث عن بدائل بعيدًا عن الصندوق، في تناقض يكشف حجم الفشل والارتباك.
الدلالات الاقتصادية والسياسية
هذا التحول لا يمكن قراءته إلا كاعتراف بفشل النموذج الاقتصادي الذي فُرض على المصريين منذ سنوات.
هو إقرار بأن "الإصلاح" المزعوم لم يجلب سوى الديون والخراب.
هو محاولة لتجهيز الرأي العام لمرحلة جديدة قد تكون أكثر قسوة، ربما عبر قروض بشروط أسوأ من جهات أخرى.
هو انعكاس لانعدام أي رؤية حقيقية للإصلاح، سوى الاستدانة المتواصلة وإلقاء الفشل على أطراف خارجية.
الخبير الاقتصادي ممدوح الولي اعتبر أن تصريحات بكري ليست سوى "مناورة سياسية لتخفيف الضغط عن الحكومة"، بينما قال الدكتور رشاد عبده إن "الابتعاد عن الصندوق دون وجود بدائل واضحة قد يضع مصر أمام أزمة تمويل خانقة".
المواطن وحده يدفع الفاتورة
في النهاية، المواطن البسيط هو الضحية.
الكهرباء تضاعفت فواتيرها عشرات المرات، أسعار السلع تحولت إلى كابوس يومي، والرواتب لا تكفي نصف الاحتياجات.
وبعد كل هذا، يأتي إعلاميون ومسؤولون ليتنصلوا من الصندوق، وكأنهم لم يصفقوا له بالأمس.
الحقيقة أن المصريين يدفعون ثمن السياسات الكارثية التي نفذتها حكومة الانقلاب برعاية السيسي، وليس الصندوق وحده.
تصريحات مصطفى بكري الأخيرة تكشف زيف خطاب السلطة وأدواتها الإعلامية.
بالأمس كان الصندوق "طوق النجاة"، واليوم صار "الشيطان الأكبر".
وبين الأمس واليوم، ضاعت أعمار ولقمة عيش ملايين المصريين.
الحقيقة الواضحة أن الكارثة لم يصنعها صندوق النقد وحده، بل صنعها من تحالف معه وطبق سياساته بلا رحمة.
أما الاكتفاء بالقول "نتكل على الله"، فهو ليس سوى غطاء جديد لفشل قديم، سيدفع الشعب ثمنه كما دفع دائمًا.