منذ سنوات، باتت الشفافية في عرض الأرقام الاقتصادية في مصر محل شك واسع، بعدما اتجهت الحكومة إلى تغييب بيانات جوهرية عن نسب الفقر، وفي المقابل الاحتفاء بتحقيق ما وصفته بـ"أعلى فائض أولي في الموازنة". خطوة اعتبرها خبراء ومنظمات حقوقية "تدليسًا متعمدًا"، لإخفاء الصورة القاتمة للوضع الاقتصادي في ظل تضخم الديون وتدهور مستوى المعيشة.
غياب الأرقام الرسمية
منذ عام 2009 اعتاد الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إصدار تقرير دوري حول معدلات الفقر تحت عنوان "بحث الدخل والإنفاق". إلا أن هذا التقليد توقف فجأة بعد 2020، ولم يصدر أي تقرير جديد على مدار ثلاث سنوات، في وقت شهدت فيه البلاد أزمة اقتصادية خانقة وارتفاعًا غير مسبوق في معدلات التضخم.
وعندما صدر التقرير في يونيو 2025، لم يتضمن الأرقام المعتادة لمعدلات الفقر، بل لجأ الجهاز إلى إدراج "مؤشر الفقر متعدد الأبعاد"، وهو منهجية جديدة لا تسمح بالمقارنة مع البيانات السابقة، ولا تعكس حقيقة قدرة دخل الأسرة على تلبية احتياجاتها الأساسية.
بحسب مصادر صحفية، فإن أجهزة أمنية تدخلت لمنع نشر نتائج بحثي 2021-2022 و2023-2024، بعدما أظهرا ارتفاعًا صادمًا في نسب الفقر. الأمر الذي يفسر التكتّم المستمر على البيانات الحقيقية، وسط تقديرات مستقلة تؤكد أن معدلات الفقر تجاوزت 35% وربما اقتربت من 40%.
تغيير قواعد اللعبة
التغييرات لم تتوقف عند تعطيل نشر التقارير، بل شملت أيضًا تعديل معايير احتساب الدخل. فقد أدرج جهاز الإحصاء التحويلات العينية مثل دعم "تكافل وكرامة" وحصص التموين ضمن دخل الأسرة، وهو ما يقلص حسابيًا من نسب الفقر، دون أن يغيّر من واقع الأسر التي تعجز عن تأمين الغذاء أو الدواء.
كما أُضيفت مؤشرات فرعية مثل سوء تغذية الأطفال أو الحصول على خدمات تعليمية وصحية، في محاولة لتجميل النتائج، وهو ما وصفه خبراء اقتصاد بأنه "تحايل إحصائي"، يهدف إلى إخفاء الواقع الاجتماعي المتدهور.
الفائض المزعوم
في المقابل، احتفت الحكومة يوم 17 أغسطس 2025 بتحقيق فائض أولي بلغ 629 مليار جنيه (نحو 13 مليار دولار)، وهو رقم ضخم تم الترويج له باعتباره إنجازًا ماليًا غير مسبوق. غير أن منظمات مدنية على غرار "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" أكدت أن هذا الفائض "وهمي"، لأنه تجاهل استحقاقات الديون التي تبتلع ثلثي الإنفاق الحكومي.
فوفقًا للبنك المركزي، بلغت التزامات خدمة الدين الخارجي لعام 2026 نحو 27.8 مليار دولار، أي أكثر من ضعف قيمة الفائض المعلن. كما أن فوائد الدين وحدها استحوذت على 47% من مصروفات الموازنة، بزيادة 21% عن العام السابق، وهو ما جعل بعض الخبراء يطلقون على موازنة 2024-2025 اسم "موازنة فوائد الديون".
بين الأرقام والواقع
بينما تروج الحكومة لنجاحات رقمية، يعاني المواطن من تضاعف الأسعار وتراجع قدرته الشرائية. رفع أسعار الخبز والوقود والدواء والمواصلات أرهق الأسر، فيما تقلص نصيب الفرد من الإنفاق الحكومي على الصحة إلى أقل من 1900 جنيه سنويًا، في حين يُقدّر نصيبه من فوائد الديون بأكثر من 17 ألف جنيه.
هذه المفارقة تكشف طبيعة الأزمة: أرقام رسمية انتقائية، تُخفي الفقر الحقيقي وتحتفي بفائض غير موجود على أرض الواقع، بينما يبقى المواطن هو الضحية المباشرة لسياسات اقتصادية تضع خدمة الدين أولوية مطلقة على حساب معيشته الأساسية.
المصادر:
Arab Republic of Egypt Poverty and Equity Brief: April 2025
Multidimensional poverty in Egypt: an in-depth analysis
بيانات غير منشورة من «الدخل والإنفاق» تكشف أسباب دفنه لسنوات
عن الاحتفاء الحكومي بالفائض الأولي: الصورة لا تكتمل بدون الديون
2024/2025: موازنة فوائد الديون.. التقشف لنا والأرباح للدائنين