في الوقت الذي تغرق فيه مصر في أزمات اقتصادية غير مسبوقة، أعلنت الحكومة الانتهاء رسميًا من تنفيذ أعلى كوبري في تاريخ البلاد، بارتفاع 80 مترًا، متجاوزًا كوبري السلام في سيناء الذي احتفظ باللقب لأكثر من ربع قرن.
الكوبري الجديد، المعروف باسم "خور مايو"، سيحمل مسار القطار السريع، عابرًا مخرات السيول في الصحراء الشرقية بين محطتي محمد نجيب والقاهرة، ضمن استعدادات الحكومة لتشغيل مشروع القطار الكهربائي السريع العام المقبل.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: ما الفائدة من هذا الإنجاز الهندسي المثير للإعجاب في ظل واقع اقتصادي بائس يعاني منه ملايين المصريين؟
أولوية مشروعات البذخ على حساب الفقراء
تنفيذ هذا الكوبري يأتي في وقت تعاني فيه مصر من ديون خارجية تجاوزت 170 مليار دولار، وعجز في الموازنة بلغ 1.18 تريليون جنيه خلال العام المالي الحالي، فضلًا عن التضخم الذي ينهش دخول المواطنين، وتدهور القدرة الشرائية لشرائح واسعة من المجتمع.
بينما تتفاخر الحكومة بتحقيق إنجازات إنشائية ضخمة، يبقى المواطن البسيط عاجزًا عن شراء أساسيات الحياة من غذاء وعلاج وتعليم.
يقول خبراء اقتصاديون إن الأولوية كان يجب أن تُعطى لمشروعات توفر الغذاء وفرص العمل وتحسن من جودة حياة المواطنين، لا مشروعات "استعراضية" تستنزف المليارات دون عائد مباشر على الاقتصاد الحقيقي.
القطار السريع.. مشروع بلا جدوى اقتصادية؟
الكوبري جزء من منظومة القطار السريع التي أثارت جدلًا واسعًا منذ الإعلان عنها، حيث يُقدّر أن تكلفتها الإجمالية تتجاوز 20 مليار دولار.
ورغم ترويج الحكومة لفوائدها في تقليل زمن الرحلات وربط المدن الجديدة، يرى خبراء أن هذه المشروعات تخدم شريحة محدودة من السكان القادرين على دفع التذاكر التي ستكون باهظة الثمن، بينما تظل وسائل النقل العامة الحالية في حالة مزرية تخنق ملايين المصريين يوميًا.
وتشير التقديرات إلى أن تمويل هذه المشروعات يتم عبر قروض خارجية جديدة، ما يضاعف من أعباء الديون وخدمة فوائدها التي تلتهم أكثر من نصف الموازنة العامة.
هذا يعني أن كل "إنجاز" من هذا النوع يضيف عبئًا جديدًا على الأجيال القادمة التي ستدفع ثمن قرارات غير مدروسة.
رمزية الإنجاز مقابل الواقع المؤلم
الحكومة تروج للمشروع باعتباره إنجازًا يضع مصر في مصاف الدول الكبرى من حيث البنية التحتية، لكن الواقع أن أكثر من 60% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر أو قريبًا منه، والتعليم في تراجع، والخدمات الصحية منهارة، والأسعار مشتعلة دون أفق لحل.
هل يحتاج المصريون إلى أعلى كوبري في تاريخهم، أم يحتاجون إلى تخفيض أسعار السلع، وتوفير الدواء، وتحسين المدارس والمستشفيات؟
هذا هو السؤال الذي يطرحه الشارع بينما يرى إنفاق المليارات في الرمال، فيما يزداد عجز الموازنة عامًا بعد عام.
استعدادات بلا جدوى؟
وفقًا للتقارير الرسمية، من المقرر أن يدخل القطار السريع الخدمة العام المقبل، لكن مصادر تشير إلى أن التشغيل قد يتأخر بسبب تحديات التمويل وارتفاع تكلفة التشغيل والصيانة.
كل ذلك يعني أن الكوبري العملاق، الذي يمثل فخرًا هندسيًا للحكومة، قد يظل طويلًا مجرد رمز في الصحراء بلا جدوى اقتصادية واضحة.
في النهاية، يظل الإنجاز الحقيقي ليس في بناء أطول كوبرٍ أو أعلى جسر، بل في بناء اقتصاد قوي يوفر حياة كريمة للمواطنين قبل أن يضيف إنجازًا جديدًا إلى قائمة الديون المتراكمة.