في ظل ما يُروج له من مشاريع إسكان اجتماعي تهدف إلى توفير مأوى لذوي الدخل المحدود في مصر، تكشف الوقائع أن هذه المشاريع تحولت إلى مرتع خصب للفساد والسمسرة المدعومة من موظفين ومسؤولين في دوائر الدولة، مما يحول حلم الفقراء في الحصول على سكن ملائم إلى كابوس متكرر في ظل نظام عبد الفتاح السيسي.
مشروع الإسكان الاجتماعي أُطلق بهدف توفير وحدات سكنية بأسعار ميسرة.
لكن الواقع يقول غير ذلك، فقد ارتفعت مقدمات الحجز من 20 ألف جنيه إلى 50 ألف جنيه، وارتفعت أسعار الوحدات من أقل من 100 ألف جنيه إلى مليون جنيه خلال سنوات قليلة، ما يحول "شقق الفقراء" إلى سلعة في سوق سوداء تتحكم فيها شبكات السمسرة بدعم من موظفين ومسؤولين محليين.
هذه الشبكات تستغل أساليب تكنولوجية متقدمة للتحكم في نظام الحجز الإلكتروني، وفرض رسوم تتراوح بين 25 و50 ألف جنيه على المودعين، مع وجود تدخلات داخلية تضمن تفوق أسماء معينة في القرعة، حتى أن السماسرة باتوا يعلنون عن خدماتهم إلكترونيا بوقاحة ومعاقبة المواطنين المحتاجين.
فساد المسؤولين
تتكشف فضائح فساد كبرى تشمل موظفين في الوزارات المعنية والبنوك والشهر العقاري، الذين يشاركون في عمليات تزوير أوراق رسمية مثل مفردات المرتبات التي تُستخدم للتقديم على الوحدات السكنية، مقابل مبالغ تصل إلى ألف جنيه أو أكثر حسب الحاجة، ما يفتح الباب واسعاً أمام غير المستحقين للاستحواذ على وحدات مدعومة حكومياً.
كذلك هناك تسريب لبيانات المستفيدين الحقيقيين إلى السماسرة الذين يلاحقونهم لإقناعهم ببيع وحداتهم بأسعار مضاعفة، مع وجود تحذيرات من نواب برلمانيين مثل فايز بركات الذي كشف وجود تعاون بين السماسرة وموظفين من داخل الجهاز الحكومي.
سكان تعرضوا لسحب وحداتهم بعد شراء اثنان أو ثلاث مرات من سماسرة، وآخرون رووا عن موظفين طلبوا مبالغ لتحويل اسمائهم في قوائم الانتظار.
على خلفية الانتقادات، خرجت قيادات صندوق الإسكان الاجتماعي بتنفيهات وتصريحات رسمية.
في مقابلات وإعلانات متكررة، أكدت مي عبد الحميد، رئيسة الصندوق، أن "لا وسطاء" و "الشفافية هي الأساس"، وأن الدعم يذهب لمستحقيه فقط، مع دعوات لعدم الانسياق وراء الشائعات.
لكن هذه التصريحات لم تقنع قطاعات واسعة من المتضررين الذين يشهدون يومياً فقدان فرص السكن لصالح فئات غير مستحقة.
مصادر صحفية ميدانية وثّقت حالات حيث بُيعت الوحدة الواحدة في أكثر من صفقة قبل أن تتدخل الضبطية القضائية وتحرر محاضر.
هذه الشهادات تجسد الفجوة بين الخطاب الرسمي وواقع المواطن.
أساليب التسريب والتلاعب بالقرعة الإلكترونية
بعد تعثر القرعة الإلكترونية التي اعتمدت لتفادي التلاعب، عادت وزارة الإسكان إلى طريقة القرعة الورقية في استاد المقاولون العرب، إلا أن الفساد لم يتوقف.
إذ تستخدم شبكات السمسرة أجهزة كمبيوتر حديثة ومهندسين لتوجيه عمليات الحجز لصالحهم، بينما يعاني المواطن العادي من انهيار المواقع الإلكترونية، مما يجعل من المستحيل عليه الحصول على فرصة عادلة.
هذا تلاعب يجري بدعم ضمني من جهات نافذة، والفوضى التي يخلقها الفساد تقود إلى إحباط ملايين المحتاجين لسكن لائق.
يعيش أكثر من 64% من الفقراء في مصر في مساكن سيئة وبدون حوائط دائمة أو أسقف ثابتة، حسب دراسات رسمية. المشاريع الحكومية رغم إعلانها باستمرار، لا تغطي الأعداد الهائلة للمتقدمين، الذين تجاوز عددهم الملايين، والارتفاع المستمر في أسعار الوحدات السكنية جعلها بعيدة عن متناول الفقراء تماما.
فالسياسات الحكومية تفرض شروط مالية ومعايير لا تناسب الفئات المستهدفة، مما يعزز من ظاهرة السمسرة وزيادة معاناة الفقراء، الذين يتم استغلالهم بدلاً من دعمهم.
حجم الأزمة
الجهات الرسمية نفسها أصدرت أرقاماً تشير إلى ضبط مخالفات واسعة: تقرير يعود إلى مارس 2021 أشار إلى تحرير 1325 محضراً بشأن وقائع بيع أو تأجير وحدات إسكان اجتماعي خلال 8 أشهر.
وفي حالة محددة بمدينة حدائق أكتوبر جرت التحقيقات على 552 وحدة في مشروع مكوّن من 23 عمارة، وتم تحرير 46 محضراً للوحدات المخالفة.
هذه الأرقام تعطي بُعداً رقميّاً للسمسرة المنظمة التي تحرم مستحقي الدعم.
سمسرة منظمة
مصدر المشكلة يبدأ من ثغرات في آليات الحجز والتسليم: قوائم انتظار طويلة، إجراءات ورقية معقدة، وانقطاعات في قواعد البيانات تفتح مجالاً أمام وسطاء يعلنون عن وحدات "مضمونة" لقاء عمولات ووعود بتجاوز شروط الأهلية.
وفق تحقيقات وصحافة محلية، تحدثت سجلات عن حالات بيع وبيع متكرر لنفس الوحدة أو إنذارات وسحب للوحدات بعد ضبط مخالفات، ما يعكس وجود شبكة تربط بين السماسرة وبعض الموظفين.
تحذيرات من تفاقم الأزمة
النائب البرلماني فايز بركات حذر علناً من سيطرة السماسرة على مشروع الإسكان الاجتماعي، معتبراً أن هذه السيطرة تحول الدعم الحكومي إلى أموال تُباع وتُشترى في صفقات مشبوهة لا تصب في مصلحة الفقراء، كما طالب بمحاربة فساد الموظفين المتورطين وتفعيل آليات شفافة لمنح المستحقين وحداتهم.
من جهات أخرى، تم التأكيد على أن تفشي الفساد يعكس الانهيار الشامل في منظومة العدالة الاجتماعية تحت حكم السيسي، ويؤكد أن الاستمرار في السياسة الحالية يعني استمرار زيادة الطبقات الاجتماعية الفقيرة دون حلول حقيقية.
ملخص الصورة أن مشروع سكن الفقراء تحت حكم السيسي تحول إلى مشروع فساد شامل تموله الشبكات المتداخلة بين السماسرة والموظفين الحكوميين، الفقراء الذين ينتظرون سنوات طويلة للحصول على وحدة سكنية صارت تحولهم تربح من جيوبهم، والبيع والشراء في السوق السوداء يعكس غياب الرقابة وتفشي البيروقراطية الفاسدة.
هذا الواقع يتناقض بشدة مع الخطابات الرسمية التي تزعم اهتمام النظام بتحسين حياة الطبقات الفقيرة، ليبقى السؤال الملح: متى ينال الشعب حقه في سكن لائق بعيداً عن السمسرة والفساد؟.