قبل أيام من وصول بعثة صندوق النقد الدولي إلى القاهرة لمناقشة المراجعة الخامسة للاقتصاد المصري ضمن الاتفاق الموقع مع الحكومة، بدأت الأخيرة تنفيذ خطط عاجلة لتدوير الأصول المملوكة للدولة، في محاولة لإظهار التزامها بتعهداتها أمام الصندوق بشأن الخصخصة والإصلاحات الهيكلية.
إلا أن هذه الخطوات أثارت جدلًا واسعًا حول طبيعتها الحقيقية، بعد أن اتضح أنها تتمحور حول نقل ملكية الأصول من جهات حكومية مدنية إلى شركات تابعة للمؤسسة العسكرية والأجهزة السيادية، بدلًا من طرحها للقطاع الخاص أو المستثمرين الأجانب.
 

اتفاق ملزم وضغوط متزايدة
الاتفاق الموقع مع صندوق النقد الدولي ينص بوضوح على ضرورة الإسراع في التخلص من الأصول العامة غير الاستراتيجية، بالإضافة إلى ضمان مرونة سعر الصرف وتحرير الاقتصاد.
لكن الحكومة المصرية، التي تواجه أزمة سيولة وتراجعًا في الاستثمارات الأجنبية، اختارت مسارًا مختلفًا، عبر ما وصفه خبراء اقتصاديون بـ "إعادة التمليك الداخلي" أو "التدوير المغلق" للأصول العامة.

هذه الخطوة تسبق المراجعة التي ينتظرها صندوق النقد للتأكد من مدى التزام القاهرة بالإصلاحات، خصوصًا في ما يتعلق بتقليص دور الدولة في الاقتصاد لصالح القطاع الخاص.
غير أن الواقع يشير إلى أن الجيش والأجهزة السيادية يوسعان نطاق سيطرتهما على الأصول الاقتصادية الحيوية، مما يثير تساؤلات حول جدية الحكومة في تنفيذ وعودها للصندوق.
 

التحايل عبر قانون الاستثمار
أحد أهم الأدوات التي تعتمد عليها الحكومة في هذه العملية هو قانون الاستثمار رقم 72 لسنة 2017، الذي يمنح الشركات المسجلة تحته حوافز وضمانات واسعة، تشمل حرية التصرف في الأصول والاستثمارات، دون تدخل من الأجهزة الرقابية أو البرلمان.
وهذا يعني أن الشركات التابعة للجيش أو الصناديق السيادية، بعد استحواذها على الأصول العامة، ستكون قادرة على بيعها للغير أو الدخول في شراكات دون أي قيود رقابية حقيقية.

كما يوفر القانون ميزة الإعفاءات الضريبية وتسهيلات في نقل الملكية، ما يجعل هذه الخطوة بمثابة نقل الأصول من ملكية الدولة إلى ملكية كيانات مغلقة، مع منحها صلاحيات شبيهة بالقطاع الخاص، ولكن تحت عباءة سيادية.
 

صفقة "الشركة العربية لاستصلاح الأراضي" نموذجًا
في خطوة لافتة، نقلت الحكومة مؤخرًا أصول الشركة العربية لاستصلاح الأراضي التابعة لوزارة قطاع الأعمال العام، إلى جهاز مصر المستقبل التابع للقوات الجوية، وذلك بأقل من قيمتها السوقية في بورصة الأوراق المالية بنسبة تصل إلى 5% فقط.
هذا التخفيض الكبير في السعر أثار علامات استفهام حول معايير التقييم والشفافية في هذه الصفقات، خاصة أنها تتم بعيدًا عن أي رقابة برلمانية أو رقابة من الأجهزة المستقلة.

بالتوازي مع هذه الخطوة، تم تمليك أصول أخرى لشركات تابعة للصندوق السيادي المصري، الذي يتمتع بسلطات واسعة في التصرف في الأصول، سواء عبر البيع المباشر أو منح حق الانتفاع أو التأجير التمويلي.
هذه الصلاحيات تجعل من الصعب تتبع مسار هذه الأصول بعد خروجها من الملكية العامة.
 

انتقادات وتحذيرات
خبراء الاقتصاد يحذرون من أن هذه الخطط لا تحقق الهدف الأساسي الذي يسعى إليه صندوق النقد، وهو خلق بيئة تنافسية حقيقية للقطاع الخاص وتقليص هيمنة الدولة.
على العكس، فإن نقل الأصول إلى شركات عسكرية أو سيادية يزيد من تغوّل هذه المؤسسات في الاقتصاد، ويؤدي إلى استمرار الاحتكار وضعف المنافسة.

كما يرى مراقبون أن هذه الخطوة قد تنذر بزيادة التوتر بين الحكومة وصندوق النقد، خصوصًا إذا اعتبر الصندوق أن مصر لم تلتزم بروح الاتفاق، التي تقوم على تحرير السوق ومنح فرص متكافئة للمستثمرين، وليس مجرد إعادة توزيع الأصول داخل الدولة.
 

خاتمة: إصلاح أم إعادة هيكلة مغلقة؟
بينما تسعى الحكومة لإقناع صندوق النقد الدولي بأنها تسير في مسار الإصلاح، يرى خبراء أن ما يحدث حاليًا هو إعادة هيكلة شكلية للأصول، مع بقاء السيطرة في يد الدولة عبر ذراعها الأقوى: المؤسسة العسكرية والأجهزة السيادية.
هذه السياسات قد تمنح الحكومة هامشًا مؤقتًا للتحرك، لكنها لا تعالج جوهر الأزمة الاقتصادية ولا تحقق هدف جذب استثمارات أجنبية حقيقية.

ويبقى السؤال: هل سيتقبل صندوق النقد هذا المسار باعتباره التزامًا بالاتفاق، أم سيضغط لمزيد من الشفافية والخصخصة الحقيقية؟
الإجابة قد تحدد شكل العلاقة بين القاهرة والمؤسسة الدولية في المرحلة المقبلة.