تواجه مصر واحدة من أخطر أزماتها الاستراتيجية في العقود الأخيرة: ندرة المياه، التي تحولت إلى معركة "بقاء مائي" يومية. فقد تراجع نصيب الفرد السنوي إلى نحو 550 متراً مكعباً فقط، أي أقل كثيراً من خط الفقر المائي المحدد عالمياً عند ألف متر مكعب للفرد.
هذا التراجع الحاد دفع حكومة السيسي إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات القاسية، أبرزها رفع أسعار مياه الشرب والمياه المستخدمة في الصناعة بشكل دوري، وفرض رسوم مرتفعة على تركيب مضخات المياه في المناطق الصحراوية وحول نهر النيل، إلى جانب تجريم استخدام المياه النقية في أغراض غير أساسية مثل غسل السيارات والشوارع.
ومع تجاوز عدد سكان مصر108 ملايين نسمة بمعدل زيادة يفوق المليون سنوياً، يزداد الوضع قتامة، إذ باتت البلاد مهددة بالوصول إلى مستوى الندرة المطلقة خلال العام الجاري 2025. ويضاعف الأزمة استمرار المخاطر المرتبطة بتراجع حصة مصر السنوية من مياه النيل، المقدرة بنحو55 مليار متر مكعب، والتي تمثل ما يقرب من 90% من احتياجاتها المائية، وذلك نتيجة التداعيات المستمرة لبناء سد النهضة الإثيوبي.
في المقابل، تصطدم محاولات الدولة لتجاوز الأزمة بعقبات مالية ضخمة تحول دون التوسع بالسرعة المطلوبة في إنشاء محطات تحلية المياه، وتطوير مشروعات إعادة تدوير مياه الصرف الصحي، أو استغلال مخزون المياه الجوفية، ما يجعل أزمة العطش في مصر قضية وجودية تتجاوز حدود التنمية لتصبح مسألة حياة أو موت.
معارك سياسية خاسرة
تدفع الأزمة حكومة السيسي إلى خوض معارك سياسية، لم تربح أي منها على مدار السنوات العشر الماضية، مع إثيوبيا وبعض الدول بمنابع نهر النيل، التي تدعم أديس أبابا، وأخرى اقتصادية من أجل الحصول على تمويل بالعملة الصعبة من المؤسسات المالية والأممية لإقامة مشروعات تحلية مياه البحر وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي لتوفير المياه للقطاعات الصناعية والزراعية والعمرانية التي تتزايد رقعتها سنوياً.
يأتي ذلك بينما تشتد على البلاد توابع التغيرات المناخية لتزيد مناخها الحار تطرفاً يرفع معدلات التصحر ويزيد منسوب مياه البحار، الذي يهدد الرقعة الزراعية والعمرانية ويرفع ملوحة المياه الجوفية في مناطق تمتد لوسط الدلتا، وفقاً لتقديرات خبراء متخصصين في علوم الأرض والبيئة.
الفقر المائي
قال أستاذ الأراضي والمياه بجامعة القاهرة البروفيسور نادر نور الدين إن حدود الفقر المائي التي وضعتها الأمم المتحدة تبلغ 1000 متر مكعب التي يستخدمها الفرد سنوياً لكافة الأنشطة التي يقوم بها، وتشمل توليد الكهرباء والصناعة والزراعة والشرب، ولفت إلى أنّ مصر تقع في نطاق دول الفقر المائي، ومع تراجع حصة الفرد سنصبح في مرحلة الشح المائي، الذي يقدر عند حدود 500 متر مكعب من المياه سنوياً.
ويؤكد أنّ المواطن المصري لم يشعر حتى الآن بمرحلة الشح المائي، لأن الدولة منذ شروع إثيوبيا في بناء سد النهضة، استعانت بالمخزون الهائل في بحيرة السد العالي، الذي يصل إلى 162 مليار متر مكعب في تدبير احتياجاتها من المياه. ويبيّن خبير المياه أنه لولا المخزون المائي ببحيرة ناصر ووفرة الأمطار التي مكنت إثيوبيا من ملء سد النهضة بدون قطع الإمدادات عن مصر والسودان، لتعرضت مصر إلى كارثة مائية سريعة، وفقًا لـ"العربي الجديد".
وأكد أن هذه المخاوف استدعت مطالبة مصر لإثيوبيا بتوقيع اتفاق ملزم يمنح لمصر والسودان الحق في مراقبة نظام التشغيل وإدارة السد، بخاصة في السنوات العجاف مع تراجع معدل الأمطار، لضمان عدم وقف تشغيل التوربينات وغلق بواباب السد إلا عند الحدود الدنيا التي تحافظ على حق إثيوبيا في تشغيل 80% من قدرات توليد الكهرباء للسد، وبما يجعل الدول الثلاث مشاركة في تحمل أعباء الشح المائي دون أن يقع الأثر السيئ على دولة بمفردها مثل مصر.
معالجة مياه الصرف
أشار نور الدين إلى أن الحكومة وضعت مخططاً لمواجهة أزمة المياه بإقامة 17 محطة لتحلية المياه على سواحل البحرين الأحمر والمتوسط، تنفذ بالكامل قبل عام 2030 بالتعاون مع القطاع الخاص ومؤسسات التمويل الدولية، يمكنها تدبير خمسة مليارات متر مكعب سنوياً، مبيناً ارتفاع كلفة المتر المكعب إلى 25 جنيها إضافة لقيمة المحطة الإسمية.
ذكر نور الدين أن الدولة تتوسع في معالجة مياه الصرف لاستغلال عوائدها في زراعة الأراضي الجديدة، بعد إضافة كميات مناسبة من المياه النظيفة إليها، مع تبني مشروع "تبطين الترع" في المناطق الزراعية القديمة لتقليل فقد المياه، والذي نفذ على امتداد 5600 كيلومتر، بينما تبلغ أطوال الترع نحو 33 ألف كيلومتر، مع الاتجاه إلى تقليل مساحة الزراعات المستهلكة للمياه، كالأرز وقصب السكر والموز والخضراوات عريضة الأوراق، والاعتماد على الصوب الزراعية التي ترفع إنتاجية الأرض وتقلل استهلاك المياه بنسبة تصل إلى 40% عن معدلات الري بغمر الأراضي.
صعوبات مالية
كشف نور الدين، الذي عمل مستشارا لوزير التموين والتجارة الداخلية سابقًا لعدة سنوات، عن مواجهة مشروع تحويل الزراعة بالأراضي القديمة من الري بالغمر إلى "التنقيط" والصوبات الحديثة صعوبات مالية أدت إلى تأجيله عدة مرات، رغم مشاركة البنك الدولي في تمويل المشروع، مؤكدًا أن تغير سعر الصرف وتدهور الجنيه أمام الدولار أديا إلى ارتفاع مستلزمات الري وصعوبة في تحديد الجهة التي ستتحمل التكاليف، خاصة أن الفلاح المصري غير قادر على تحمل هذه الأعباء المكلفة للغاية.
يرى خبراء الري أن الجهود التي تقوم بها الحكومة لمواجهة أزمة المياه تنقصها الشفافية، خاصة في إدارة ملف سد النهضة، الذي شهد غياب اتفاق قانوني ملزم مع إثيوبيا وترك مصر عرضة لمخاطر كبيرة خلال فترة الجفاف أو عند تشغيل سد النهضة بكامل سعته مع ضعف كفاءة استخدام المياه في الزراعة والإسراع نحو تحليه مياه البحر، في ظل أزمة مالية حادة وارتفاع قيمة الديون الأجنبية وعدم قدرة السلطات على تغيير أنماط استهلاك المياه المستخدمة في المنازل والزراعة والصناعة، وتجريف الأراضي القديمة والتوسع في إنشاء مساحات زراعية ومدن بأراض جديدة تحتاج إلى كميات هائلة من المياه.