تشهد الأسواق المصرية خلال الفترة الأخيرة موجة جديدة من الارتفاعات الحادة في أسعار الذرة، حيث تجاوزت الزيادة 25% خلال أسابيع قليلة فقط، وسط نقص واضح في المعروض بالأسواق. هذا الارتفاع لا يقف عند حدود سلعة زراعية بعينها، بل يمتد أثره إلى سلسلة الإنتاج الغذائي بأكملها، من صناعة الأعلاف إلى قطاع الدواجن الذي يعتمد على الذرة كمكون أساسي. وبينما تتصاعد تحذيرات الخبراء من أزمة قادمة في أسعار الغذاء، تواصل حكومة السيسي إلقاء اللوم على الظروف العالمية، متجاهلة مسؤوليتها عن إدارة الأزمة وفشلها في توفير الدولارات اللازمة للاستيراد.
الذرة… أساس صناعة الأعلاف
تُعتبر الذرة أحد الأعمدة الرئيسية في صناعة الأعلاف، إذ تشكل أكثر من 60% من مكونات غذاء الدواجن. وبالتالي فإن أي زيادة في سعرها تؤدي تلقائيًا إلى ارتفاع تكلفة إنتاج الدواجن والبيض، وهما من السلع الأساسية في سلة غذاء المواطن المصري. ومع محدودية البدائل المحلية لإنتاج الذرة، يبقى الاعتماد على الاستيراد هو الحل الوحيد لتغطية الفجوة الكبيرة بين الإنتاج والاستهلاك. لكن ما يحدث اليوم هو أن ضعف المعروض من العملة الصعبة في السوق المصرية أعاق عمليات الاستيراد، ليتحول الملف من أزمة أسعار عالمية إلى أزمة إدارة محلية بامتياز.
فشل حكومي في إدارة الدولار
الحكومة تعلن منذ سنوات عن خطط لزيادة الإنتاج المحلي من الذرة وتقليل الاعتماد على الاستيراد، لكن هذه الخطط لم تتجاوز حدود التصريحات الإعلامية. فعلي أرض الواقع، ما زال أكثر من نصف احتياجات السوق يُستورد من الخارج. ومع نقص الدولار في البنوك وصعوبة توفيره للمستوردين، تراكمت الشحنات في الموانئ وتأخر الإفراج عنها، ما أدى إلى قفزات متتالية في الأسعار. هذا الفشل في إدارة ملف العملة الصعبة انعكس مباشرة على توافر السلع الأساسية، ليصبح المواطن هو الحلقة الأضعف الذي يتحمل تكاليف التخبط الحكومي.
انعكاسات على الأمن الغذائي
أزمة الذرة ليست مجرد أزمة أسعار في الأسواق، بل تهدد الأمن الغذائي المصري بشكل مباشر. فارتفاع تكلفة الأعلاف يعني مزيدًا من التراجع في استثمارات قطاع الدواجن، وخروج مزارع صغيرة من السوق لعدم قدرتها على تحمل الخسائر. هذه الخسارة لا تعني فقط ارتفاع أسعار الدواجن والبيض، بل أيضًا تقليص فرص العمل في قطاع حيوي يوظف مئات الآلاف من المصريين. الأدهى أن هذه الأزمة تتكرر بشكل دوري منذ سنوات، ما يعكس غياب أي رؤية حكومية جادة لحماية الأمن الغذائي وتوفير بدائل إنتاجية محلية.
المواطن بين المطرقة والسندان
المواطن البسيط، الذي يعاني أصلًا من موجات متتالية من التضخم، يجد نفسه اليوم أمام معاناة إضافية. فارتفاع أسعار الأعلاف ينعكس مباشرة على أسعار الدواجن التي تعد المصدر الأساسي للبروتين لمعظم الأسر. ومع وصول أسعار اللحوم الحمراء إلى مستويات غير مسبوقة، تصبح الدواجن آخر ملاذ للفقراء ومتوسطي الدخل. لكن حتى هذا الملاذ بات مهددًا بفعل التخبط الحكومي وسوء إدارة ملف الاستيراد. النتيجة أن المواطن يتحمل تكلفة فشل السياسات، دون أي حماية أو دعم حقيقي من الدولة.
وأخيرا فان أزمة الذرة وارتفاع أسعارها بأكثر من 25% ليست حدثًا عابرًا مرتبطًا بتقلبات السوق العالمية، بل هي انعكاس مباشر لفشل الحكومة المصرية في إدارة ملف استراتيجي يتعلق بحياة ملايين المواطنين. غياب التخطيط للإنتاج المحلي، وعجز الدولة عن توفير الدولار للمستوردين، وتكرار نفس الأخطاء عامًا بعد عام، كلها عوامل تؤكد أن الحكومة تفتقر إلى رؤية واضحة لحماية الأمن الغذائي. وإذا استمر هذا النهج القائم على التبريرات والإنكار، فإن النتيجة الحتمية ستكون مزيدًا من ارتفاع الأسعار، وتراجعًا في القدرة الشرائية للمواطنين، وتآكلًا متواصلًا في الثقة بين الدولة وشعبها.