نشرت وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية مؤخرًا بيانات رسمية تكشف عن ارتفاع خطير في مستويات الدين المحلي والعام في مصر، في ظل استمرار الاقتراض لسد عجز الموازنة وتغطية الالتزامات الحكومية المتزايدة.

في وقت تتعمق فيه الأزمة المعيشية للمواطن المصري، تطرح هذه المؤشرات أسئلة جوهرية حول جدوى السياسات المالية الحالية، ومدى قدرتها على تجنيب البلاد مخاطر الانهيار المالي الشامل.

 

الدين المحلي يتجاوز 10.6 تريليون جنيه

وفقًا لأحدث البيانات الرسمية، بلغ إجمالي الدين المحلي بنهاية الربع الأول من عام 2025 نحو 10.685 تريليون جنيه، مقارنة بـ 10.154 تريليون جنيه بنهاية عام 2024، بزيادة قدرها 531 مليار جنيه خلال ثلاثة أشهر فقط، أي بنسبة نمو تبلغ 5.2%، وهي نسبة مرتفعة في ظل الركود الاقتصادي المستمر.

هذه القفزة اللافتة تعني أن الدين المحلي بات يعادل أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لمصر بالأسعار الجارية (تقديرات 2024)، مما يعني أيضًا أن كل مواطن مصري — بمن فيهم الأطفال — مديون بأكثر من 100 ألف جنيه تقريبًا على المستوى المحلي فقط.

 

الدين العام يتجاوز 14.6 تريليون جنيه

أما إجمالي الدين العام (المحلي + الخارجي) فقد ارتفع إلى 14.686 تريليون جنيه بنهاية الربع الأول من 2025، مقارنة بـ 14.073 تريليون جنيه في الربع السابق، بزيادة تبلغ 613 مليار جنيه، أي بمعدل نمو نسبته 4.4%.

وتكشف هذه الأرقام عن استمرار الحكومة في نهج مالي توسعي قائم بالأساس على الاقتراض المتكرر، بدلًا من العمل على تعظيم الإيرادات الإنتاجية أو رفع كفاءة الإنفاق العام.

 

أدوات دين جديدة بقيمة 1.5 مليار دولار

لم يقتصر الأمر على الاقتراض المحلي؛ فقد أقدمت الحكومة مؤخرًا على إصدار أدوات دين دولارية (سندات أو أذون خزانة) بقيمة 1.5 مليار دولار، بحجة تمويل عجز الموازنة.

لكن هذا المسار يزيد من الأعباء المستقبلية المرتبطة بخدمة الدين الخارجي، ويعرّض التصنيف الائتماني السيادي لمخاطر أكبر، كما يرفع تكلفة الاقتراض لاحقًا بسبب تفاقم المخاطر المالية.

 

أين تذهب كل هذه الأموال؟

السؤال الأكثر إلحاحًا لدى المواطنين والمراقبين: أين تُنفق هذه القروض؟

رغم حديث الحكومة المتكرر عن "تمويل المشروعات القومية"، إلا أن غياب الشفافية يجعل من الصعب التحقق من ذلك.

وتشير تقارير اقتصادية إلى أن نسبة كبيرة من هذه القروض تُستخدم لسداد فوائد وأقساط ديون سابقة، وليس لتمويل مشروعات إنتاجية حقيقية.

كما أن مخصصات الصحة والتعليم لم تشهد زيادات حقيقية، في حين توسعت مشروعات البنية التحتية دون أن يكون لها عائد اجتماعي أو اقتصادي ملموس حتى الآن.

 

الأثر المباشر على المواطن

في مقابل هذا التوسع في الاستدانة، يعاني المواطن المصري من أزمة معيشية متفاقمة، تتجلى في:

  • ارتفاع حاد في أسعار السلع الأساسية
  • تدهور مستمر في قيمة الجنيه أمام الدولار
  • ثبات الأجور الحقيقية وتراجع القوة الشرائية
  • ارتفاع نسب الفقر في ظل توقف الحكومة عن إعلان بياناتها رسميًا منذ سنوات

والمفارقة أن الحكومة تبرر هذه الديون بأنها لـ"تحفيز الاقتصاد"، بينما يعيش المواطن انكماشًا في مستوى معيشته وضعفًا في الخدمات وتآكلًا في الأمان الاجتماعي.

 

لماذا تستمر الحكومة في الاقتراض؟

توسّع الحكومة في الاقتراض يعود إلى:

  • عجز بنيوي في الموازنة العامة
  • انخفاض الإيرادات الضريبية وغير الضريبية مقارنة بالنفقات المتضخمة
  • ضعف الاستثمار الصناعي والإنتاجي
  • الإصرار على تنفيذ مشروعات ضخمة في توقيت ضاغط دون عائد فوري

كل ذلك يشير إلى أزمة هيكلية في إدارة الاقتصاد، وليست مجرد أزمة طارئة يمكن تجاوزها.

 

مخاطر متصاعدة تهدد الاستقرار المالي

الاستمرار في هذه السياسة المالية القائمة على الاقتراض يحمل تبعات خطيرة، من بينها:

  • زيادة العجز في الموازنة العامة نتيجة ارتفاع فوائد الديون
  • تراجع الثقة في الاقتصاد المصري على المستوى الدولي
  • خروج محتمل للاستثمارات الأجنبية
  • احتمال التعثر في سداد الديون خلال السنوات القادمة

 

ختامًا: أزمة ديون أم أزمة إدارة؟

الاقتراض ليس في حد ذاته خطرًا إذا تم توجيهه نحو الاستثمار الإنتاجي وتحسين البنية الاقتصادية، لكن ما يحدث في مصر يعكس اختلالًا في الأولويات، وغيابًا للرؤية الاستراتيجية، وإقصاءً للعدالة الاجتماعية.

المطلوب اليوم ليس فقط إدارة الدين، بل إعادة صياغة شاملة للسياسة الاقتصادية، تقوم على الشفافية، العدالة، وتحفيز الإنتاج، لا الاكتفاء بالاستدانة لسد العجز وتدوير الأزمة.

في النهاية، المواطن المصري لا يستطيع الاستدانة لتأمين قوته اليومي، فلماذا يُجبر على تحمل عبء ديون لم يستفد منها؟ ومن يحاسب من تسبّب في هذه الكارثة؟