كشف البنك المركزي المصري، في أحدث بياناته الصادرة في يوليو 2025، أن ميزان المدفوعات المصري سجل عجزًا كليًا بلغ 4.1 مليار دولار خلال التسعة أشهر الأولى من السنة المالية 2024/2025.
ويأتي هذا العجز على الرغم من ما وصفه البيان بـ"تحسن ملحوظ في تدفقات النقد الأجنبي"، ما يثير تساؤلات عديدة حول طبيعة هذا التحسن، ومدى تأثيره الحقيقي على الوضع الاقتصادي العام.
وفقًا للتقرير، فإن السبب الرئيس لهذا العجز يعود إلى خروج صافي تدفقات مالية واستثمارية بقيمة 7.7 مليار دولار، الأمر الذي أعاد للأذهان أزمات سابقة مرتبطة بهروب رؤوس الأموال الأجنبية من السوق المصرية، في ظل أوضاع اقتصادية مضطربة وسياسات نقدية غير مستقرة.
تناقض بين الأرقام والتصريحات الرسمية..
في الوقت الذي يؤكد فيه مسؤولو حكومة الانقلاب والبنك المركزي أن الاقتصاد المصري "يتعافى تدريجيًا"، تكشف البيانات الرسمية صورة مختلفة تمامًا، فقد قال محافظ البنك المركزي حسن عبد الله في أكثر من مناسبة، آخرها في منتدى التمويل بالقاهرة في يونيو 2025، إن "الإصلاحات المالية والنقدية بدأت تؤتي ثمارها، وإن ثقة المستثمرين الأجانب تتزايد تدريجيًا".
لكن في المقابل، تُظهر الأرقام أن صافي الاستثمار الأجنبي غير المباشر شهد خروجًا جماعيًا بقيمة مليارات الدولارات، في حين تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر في القطاعات غير النفطية بنسبة بلغت نحو 18 % مقارنة بنفس الفترة من العام السابق، وفقًا لتقارير صادرة عن وزارة التخطيط.
لا يمكن إنكار أن هناك تحسنًا نسبيًا في بعض البنود، أبرزها ارتفاع تحويلات المصريين العاملين بالخارج بنسبة 9% لتصل إلى 26.2 مليار دولار خلال الفترة محل الرصد، إلى جانب ارتفاع إيرادات قناة السويس لتسجل حوالي 6.8 مليار دولار، بزيادة طفيفة قدرها 3% عن العام الماضي.
كما أشار البنك المركزي إلى تسجيل فائض في الحساب الجاري بقيمة 597 مليون دولار خلال نفس الفترة، مقارنة بعجز بلغ 5.3 مليار دولار في العام المالي السابق، نتيجة ارتفاع صادرات الغاز الطبيعي واستقرار أسعار الواردات.
لكن رغم هذه المؤشرات، فإن التأثير الفعلي على الاقتصاد المحلي محدود للغاية، خاصة في ظل استمرار ارتفاع معدلات التضخم التي تجاوزت 32 % في يونيو 2025، وضعف القوة الشرائية للمواطنين، وتدهور سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية.
أهم النقاط الرقمية:
- تحسن الحساب الجاري بنسبة 22.6%.
- تحويلات المصريين في الخارج ارتفعت بنسبة 82.7% لتبلغ 26.4 مليار دولار مقابل 14.5 مليار دولار.
- الإيرادات السياحية ارتفعت بنحو 230% عن نفس الفترة.
- الصادرات السلعية غير البترولية زادت بنسبة 56.9%.
- مع ذلك، خرجت تدفقات رأسمالية ومالية بقيمة 7.7 مليار دولار، وهو ما انعكس على الميزان الكلي وحوله إلى “عجز صافي”
هروب الاستثمار الأجنبي.. الأسباب والمخاوف
يعد خروج 7.7 مليار دولار من السوق المصرية، وفقًا لما أعلنه البنك المركزي، مؤشرًا خطيرًا على ضعف البيئة الاستثمارية، ويعكس حالة عدم الثقة في استقرار السياسات الاقتصادية، ويرى خبراء اقتصاديون، مثل الخبير الدكتور هاني توفيق، أن "غياب الشفافية في السوق، واستمرار تدخل الجهات السيادية في النشاط الاقتصادي، يدفع المستثمرين نحو وجهات أكثر استقرارًا ووضوحًا".
من جانبها، علّقت وكالة "بلومبرغ" في تقرير تحليلي صدر في 15 يوليو 2025 أن السوق المصرية "لا تزال تعاني من ضعف مرونة سعر الصرف، وتداخل السلطات التنفيذية مع الأنشطة التجارية، وهو ما يُثقل كاهل البيئة الاستثمارية".
من العوامل المؤثرة بشدة على ميزان المدفوعات، تصاعد خدمة الدين الخارجي. فقد أشار تقرير البنك المركزي إلى أن خدمة الدين الخارجي تجاوزت 11.2 مليار دولار خلال نفس الفترة، ما بين فوائد وأقساط مستحقة، ما أدى إلى مزيد من الضغوط على الحساب المالي.
يُذكر أن إجمالي الدين الخارجي لمصر بلغ نحو 171 مليار دولار بنهاية مارس 2025، وهو أعلى مستوى على الإطلاق، مما يعكس اعتماد الدولة بشكل متزايد على التمويل الخارجي لسد عجز الموازنة والدفع بخطط الإنفاق، مع غياب إنتاجية حقيقية في القطاعات الاقتصادية القادرة على توليد النقد الأجنبي المستدام.
هل هو فشل متعمد؟
أثارت هذه الأرقام موجة من الانتقادات في الأوساط الاقتصادية والمعارضة السياسية، حيث اعتبر البعض أن استمرار العجز رغم الحديث الرسمي المتكرر عن التعافي والإصلاح، يعبّر عن نهج فشل ممنهج في إدارة الاقتصاد.
وفي هذا السياق، صرّح الدكتور عمرو عدلي، أستاذ الاقتصاد السياسي، أن "الحكومة تسير في دائرة مغلقة من الاقتراض، والإنفاق غير المنتج، وتجاهل القطاعات الحيوية كالتعليم والصناعة والزراعة"، معتبرًا أن "التحسن الظاهري في المؤشرات مجرد خداع رقمي لا ينعكس على حياة الناس".
كما انتقد البرلماني السابق محمد أنور السادات، في تدوينة له على "إكس"، تجاهل الحكومة للمخاطر الاقتصادية الحقيقية، قائلاً: "بينما يحتفل المسؤولون بارتفاع تحويلات العاملين، يفر المستثمرون، ويتآكل الجنيه، ويغرق الشعب في التضخم.. هذه ليست إصلاحات بل إعادة إنتاج للفشل".
أسباب استمرار الفشل..
النقاش حول فشل السياسات لا ينفصل عن إشكاليات النظام السياسي، حيث يرى محللون أن “حكومة الانقلاب” تفشل في بناء نموذج تنموي منتج، وتعتمد على الجباية ورفع الضرائب وتحرير الأسعار دون إصلاح حقيقي للقطاعين الصناعي والزراعي، ما يؤدي إلى ارتفاع نسب الفقر والبطالة والمعاناة المعيشية.
يربط اقتصاديون الأزمة الحالية بسوء إدارة موارد الدولة، وتركيز القوة الاقتصادية بيد الجيش، وتنامي العبء الخارجي جراء استسهال الاقتراض وتنفيذ مشروعات كبيرة بلا جدوى إنتاجية ملموسة، ما يظهر جلياً في بيانات الركود الاستثماري وهروب رؤوس الأموال، وتكرار الأزمات النقدية
تُظهر أرقام البنك المركزي بوضوح أن مصر لا تزال في قلب أزمة اقتصادية معقدة، يتصدرها عجز مزمن في ميزان المدفوعات، وتراجع ثقة المستثمرين، وتراكم غير مسبوق في الديون، رغم بعض المؤشرات الإيجابية في قطاعات محددة.