في ظل ما يروج له نظام الانقلابي عبد الفتاح السيسي من مزاعم عن تحقيق "الاكتفاء الذاتي" وتأمين الاحتياطي الاستراتيجي من الحبوب، تكشف الأرقام الرسمية عن فشل ذريع في جمع القمح المحلي هذا العام.
فبحسب بيان صادر عن وزارة التموين المصرية بتاريخ 28 يونيو 2025، لم تتجاوز الكميات المجمعة من القمح المحلي 3.9 مليون طن فقط، وهو أقل من الحد الأدنى المستهدف البالغ 4 ملايين طن، وأدنى بكثير من السقف الأعلى الذي كانت تأمل الحكومة في بلوغه وهو 5 ملايين طن.
ويأتي هذا التراجع بعد سنوات من تراجع ثقة الفلاح في الدولة، بسبب انخفاض أسعار التوريد مقارنة بتكاليف الإنتاج، إلى جانب تأخر الحكومة في صرف مستحقاته، مما دفع كثيرين إلى بيع المحصول للتجار أو تهريبه للسوق السوداء.
انسحاب الدولة من المشهد
في تطور خطير، أعلنت مصادر محلية في عدة محافظات مثل الشرقية والبحيرة والدقهلية، أن الحكومة أغلقت العديد من مراكز تجميع القمح والأرز بشكل مفاجئ في الأسبوع الأخير من يونيو، في إشارة إلى توقفها عن الشراء رغم عدم تحقيق المستهدف.
هذا القرار يهدد الأمن الغذائي ويزيد الأعباء على الفلاحين الذين وجدوا أنفسهم مجبرين على بيع المحصول بأسعار أقل للسوق الخاص، أو تكبّد خسائر فادحة.
ويؤكد مراقبون أن هذه السياسة تعكس انسحاب الدولة من دورها في تأمين الغذاء، مقابل توسيع دور الشركات الخاصة والمستوردين، رغم أزمة الدولار التي تعصف بالاقتصاد المصري منذ عام 2022، وتفاقمت في 2024 بعد تخفيض الجنيه للمرة الثالثة في عهد حكومة السيسي.
"احتياطي 6 أشهر"… ولكن بأي ثمن؟
تحاول وزارة التموين تهدئة المخاوف بإعلانها أن الاحتياطي الاستراتيجي من القمح يكفي لمدة 6 أشهر، بحسب تصريحات الوزير علي المصيلحي في 28 يونيو، لكنه لم يوضح إن كانت هذه الكمية ناتجة عن الإنتاج المحلي أم عبر الاستيراد المكلف، خاصة في ظل أسعار الشحن المرتفعة عالميًا.
ويعود الاحتياطي الحالي في معظمه إلى صفقات استيراد ضخمة، تمّت عبر روسيا والهند وفرنسا خلال الشهور الماضية، رغم ما يعنيه ذلك من نزيف للعملة الصعبة في ظل شح الدولار، وارتفاع سعر صرفه في السوق السوداء إلى أكثر من 65 جنيهًا.
وفي الوقت الذي تعلن فيه حكومة الانقلاب عن الاحتياطي، تُخفِي عن المواطنين كلفة تكوينه، التي تجاوزت 2.5 مليار دولار منذ بداية 2024، وفق بيانات هيئة السلع التموينية.
فلاحون تحت الحصار.. من المسؤول؟
يُجمع العديد من الخبراء الزراعيين والاقتصاديين على أن السبب الأساسي في هذا التراجع يعود إلى السياسات الحكومية الخاطئة تجاه الفلاح، خصوصًا التسعير الجبري المنخفض.
ففي حين أعلنت الحكومة عن سعر توريد قدره 2000 جنيه للأردب، كانت تكلفة الإنتاج تتجاوز 2200 جنيه، ما جعل الفلاح يخسر في كل أردب يُسلّمه للدولة.
كما أدى غياب الدعم الحقيقي للمدخلات الزراعية مثل الأسمدة والمياه والبذور، إلى تقليص المساحات المزروعة بالقمح والأرز، إذ اتجه كثير من المزارعين إلى زراعة محاصيل أخرى أقل تكلفة وأعلى ربحية، أو ترك الأرض بورًا.
ورغم هذه الأزمة، يصر نظام السيسي الانقلابي على تزييف الواقع وإلقاء اللوم على الفلاحين بدلاً من إصلاح المنظومة الزراعية.
الأرز المحلي في مهب الريح
لم تقتصر الأزمة على القمح فقط، بل امتدت إلى الأرز المصري الذي طالما شكل أحد أعمدة الأمن الغذائي، حيث كشفت تقارير إعلامية محلية عن إغلاق بعض مراكز جمع الأرز أيضًا بعد فشل الدولة في تحقيق الكميات المستهدفة.
ويأتي ذلك رغم التوسع في زراعة الأرز خلال السنوات الأخيرة، ما يعني أن الفشل إداري بالأساس، مرتبط بسوء التخطيط وعدم توفير حوافز كافية للفلاح.
ويحذر خبراء من أن هذا الفشل قد يُجبر الدولة لاحقًا على استيراد الأرز بأسعار مرتفعة من الهند أو باكستان، في ظل نقص السيولة الدولارية، وهو ما سيزيد من أعباء الميزانية ويُضاعف الضغط على المواطن الذي يعاني بالفعل من تضخم أسعار الغذاء.
أزمة غذاء وشيكة وسط غياب المحاسبة
مع فشل الدولة في تحقيق هدفها من شراء القمح المحلي، وإغلاق مراكز الجمع، وتهديد موسم الأرز، تُدق أجراس الخطر في مصر، لكن في ظل حكم السيسي الانقلابي، لا توجد محاسبة لأي مسؤول، ولا تغيير في السياسات التي أثبتت عجزها على مدار عقد كامل.
ما يحدث اليوم ليس مجرد فشل في موسم زراعي، بل علامة على أزمة هيكلية تهدد الأمن الغذائي لمئة مليون مصري، في وقت تصر فيه السلطة على الاستمرار في مشروعات شكلية مثل القطار الكهربائي، وتوسيع العاصمة الإدارية، بينما تتآكل القدرة الشرائية للمواطن، ويُترك الفلاح وحده في الميدان، بلا دعم، ولا حماية، ولا تقدير.