لدى هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، المؤسسة الإعلامية الأقوى في بريطانيا، دور محوري في تشكيل فهم الجمهور لحرب إسرائيل على غزة، لكنها اختارت مرارًا تهميش وتلطيف واحدة من أشرس الحملات العسكرية في القرن الحادي والعشرين.

يكشف تقرير جديد صادر عن مركز مراقبة الإعلام (CfMM) نمطًا صادمًا في تغطية بي بي سي، حيث ترجّح صوت إسرائيل على حساب الفلسطينيين، وتُفرّغ معاناة الشعب الفلسطيني من مضمونها، وتتجاهل عمدًا الحديث عن الاحتلال والحصار والفصل العنصري، وهي السياقات الجوهرية التي تشكّل خلفية الكارثة الإنسانية الجارية.

ما يجري لا يتعلق بأخطاء تحريرية طفيفة، بل بفشل منهجي في التعامل مع الفلسطينيين كبشر، حياتهم ووفاتهم تستحقان نفس القدر من الاحترام والاهتمام كما الإسرائيليين. كما يُظهر تخلّي هيئة تموّلها الدولة عن التزامها بالحياد، لصالح خطاب سياسي منحاز ومنحرف.

منذ بداية الهجوم الإسرائيلي عقب عملية حماس في 7 أكتوبر 2023، صوّرت بي بي سي الحرب وكأنها صراع متكافئ بين طرفين، وتجاهلت السياق التاريخي المتمثل في الاحتلال والحصار. الكلمات مثل "الاحتلال" و"الاستيطان" و"الفصل العنصري" اختفت من تقاريرها، رغم استخدامها من قبل الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية كبرى.

النتيجة كانت تشويهاً بالغاً للواقع. ففي الوقت الذي ينهال فيه جيش متقدّم تكنولوجيًا على شعب محاصر، تُقدِّم بي بي سي تغطية تحذف المسؤول عن الغارات، وتستبدل الحقائق بتعابير مفرغة. بلغ عدد الضحايا الفلسطينيين في غزة أكثر من 55 ألف معظمهم من النساء والأطفال، لكن بي بي سي استخدمت في الغالب تعبيرات مبهمة مثل "قُتلوا في غارات جوية" دون الإشارة إلى الفاعل. بينما تصف الضحايا الإسرائيليين بكلمات قوية مثل "ذُبحوا" أو "تعرضوا لمجزرة".

راجع مركز مراقبة الإعلام أكثر من 35 ألف مادة إعلامية بثّتها بي بي سي خلال عام كامل. تَبيَّن أن بي بي سي استخدمت كلمة "مجزرة" لوصف القتلى الإسرائيليين بمعدل 18 ضعف استخدامها مع الفلسطينيين، وقدّمت تغطية متساوية تقريبًا لضحايا الطرفين رغم الفارق العددي الكبير، ما يُعدّ إضعافًا لقيمة الحياة الفلسطينية.

تَعرض الضيوف الفلسطينيون في برامج بي بي سي للمقاطعة والمساءلة المتكررة، وأُجبروا على التنديد بحماس كشرط ضمني للحديث، بينما ظهر المسؤولون الإسرائيليون دون مواجهة تُذكر، رغم دفاعهم الصريح عن قصف المستشفيات والمخيمات والمدارس. لم يُسأل أي مسؤول إسرائيلي عن هذه الجرائم الواضحة، وهو ما يُظهِر انحيازًا واضحًا.

يمتد هذا الانحراف التحريري أيضًا إلى تغطية الأسرى. غطّت بي بي سي قضية الرهائن الإسرائيليين بشكل مكثف، بينما تجاهلت معاناة آلاف الأسرى الفلسطينيين المحتجزين دون محاكمة. نادراً ما طرحت أسئلة عن هوياتهم، ظروف اعتقالهم، أو انتهاك حقوقهم.

لا يأتي هذا التحيّز من فراغ، بل يعكس ثقافة مؤسسية أعمق ترفض الاعتراف بشرعية القضية الفلسطينية، وتُصنِّف الفلسطيني إما ضحية صامتة أو "إرهابيًا"، ولا تراه إنسانًا صاحب كرامة وحق بالمقاومة.

أوضح مظاهر هذا الانحياز يظهر في معاملة مصطلح "الإبادة الجماعية". سجّل التقرير أكثر من 100 حالة قاطع فيها مذيعو بي بي سي ضيوفًا استخدموا المصطلح لوصف ما يحدث في غزة، رغم سماح محكمة العدل الدولية بمضي قضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل قُدُمًا.

تبدو بي بي سي أكثر جرأة في الحديث عن جرائم روسيا في أوكرانيا، حيث يُستخدم خطاب الحرب والفظائع دون تحفظ، بينما تلجأ للتخفيف والتبرير حين يتعلق الأمر بإسرائيل. هذا ليس حيادًا، بل رقابة تحمي الأقوياء وتُسكت المقهورين.

تتجلّى الخيانة الأعمق في تعامل بي بي سي مع مقتل الصحفيين في غزة، حيث استُشهِد أكثر من 225 صحفيًا، في أكثر الفترات دموية للإعلاميين في العصر الحديث. ورغم ذلك، لم تُغطِّ بي بي سي سوى نحو 6% من هذه الحوادث. في المقابل، غطّت 62% من وفيات الصحفيين في أوكرانيا، مما يكشف ازدواجية صادمة في المعايير.

هؤلاء الصحفيون الفلسطينيون لم يكونوا أرقامًا، بل بشراً شجعانًا وثّقوا المعاناة في ظل القصف، وكثيرون سقطوا شهداء وهم يحملون كاميراتهم. كان يجب أن تُكرِّم بي بي سي ذكراهم، لا أن تُهملهم.

في نهاية 2024، وقّع أكثر من 100 موظف في بي بي سي رسالة مفتوحة اتهموا فيها الشبكة بالتحيّز وفقدان النزاهة. أشاروا إلى ثقافة الخوف، والمعايير المزدوجة، والتضييق على الأصوات الفلسطينية. ردّت بي بي سي بالدفاع عن نفسها، مشيرة إلى الشفافية والقيود المفروضة على التغطية.

لكن القضايا التي أثارها العاملون والمتابعون تتجاوز العلاقات العامة. هي تمس جوهر دور الإعلام في زمن الإبادة الجماعية. بي بي سي تحب أن ترى نفسها معيارًا ذهبيًا للصحافة، لكن حين ترفع صوت الأقوياء وتُسكت من يتعرضون للإفناء، تفقد صدقيتها.

السكوت أمام الظلم ليس حيادًا. الجمهور يستحق تغطية عادلة، كما يستحقها القتلى الفلسطينيون، والناجون الذين ما زالوا يحاربون من أجل الحياة.
 

https://www.middleeasteye.net/opinion/uk-gaza-war-bbc-sanitises-israels-genocide-how