تخليع أسنان الشرق الأوسط
السبت 19 أبريل 2025 01:00 م
بقلم/ أنور الهواري
انظر في سجلات الأساتذة الكبار في أرقى جامعات أوروبا وأمريكا، تجد أعداداً كبيرة من أساتذة مرموقين من دول مختلفة من الشرق الأوسط وإفريقيا، ضاقت بهم وعليهم بلدانهم، كذلك ادرس قوائم المترددين من تلك البلدان على سفارات أوروبا وأمريكا في بلدانهم بقصد البحث عن فرصة سفر سواء للعمل، أو الدراسة أو الهجرة المؤقتة أو الدائمة، فسوف تدرك أن أكثرهم من الشباب عموماً، ثم الشباب المتعلم على وجه الخصوص، وقد ضاقت بهم وعليهم بلدانهم.
شعوب الشرق الأوسط عرفت فكرة الوطنية والوطن، ولكنها لم تعرف فكرة المواطنة ولا المواطن. عرفت فكرة الوطن في مواجهة الاستعمار الأوروبي، وعرفت فكرة الوطنية كراية للتضحية والفداء والاستعداد لبذل النفس والروح والاستشهاد، حتى يجلو المستعمر الأوروبي عن الأوطان. لكن بعدما تم إخراج المستعمر من الأوطان، لم تتسع الأوطان لكل أبنائها على قدم المساواة والعدل، دولة وطنية، لكن بدون حقوق لمواطنيها عليها، دولة وطنية تفهم معنى الوطنية في حدود السيطرة على شعبها وإحكام الرقابة والسيطرة عليه، ووضعه تحت أعلى درجات الرقابة وأشد درجات الهيمنة. في تلك البلدان ترى الوطنية شعاراً في كل شيء: النشيد الوطني، العلم الوطني، الأغاني الوطنية، التلفزيون الوطني، كافة الهيئات الحكومية تحمل في نهاية اسمها لقب الوطني، مطلوب من الجميع أن يكونوا وطنيين، أي خاضعين مُطيعين يصدقون الحكومة، ويحسنون الظن بها وينزهونها، عما تغرق فيه من فساد، ويتقبلون ما تمارسه من استبداد، باتت الوطنية هي تشويه إنسانية الإنسان في وعيه وفي ضميره وفي إحساسه بذاته، بل وفي كرامته، من أجل الوطن مطلوب منه أن يتنازل وأن ينسحق وأن يتخلى عن الحد الأدنى من كبريائه الطبيعي. لقد توقف الجهاد الوطني مع رحيل الاستعمار، ثم بدأ معنى الوطنية يتبلور في شرعية الإذعان لاستبداد محلي من أبناء جلدة الشعوب، استبداد يبرر نفسه لصالح الوطن وسلامة الوطن والحفاظ على الوطن ضد مؤامرات الداخل والخارج، لقد خرج الاستعمار من البلاد، ولكن البلاد لم تعد للشعوب، عادت فقط لأقليات محظوظة ذات امتيازات، تتكون من طبقات الحكام ومن حولهم، الشعوب لا ترى في الأوطان نصيباً عادلاً من فرص الحياة، فكان من الطبيعي أن تفكر في الخروج؛ بحثاً عن أمل ولو في بلدان الاستعمار ذاته، لقد أخرجناه من بلادنا، على أمل أن تتحسن أحوالنا، ثم بعد أن أخرجناه تبدلت الأمور لكن للأسوأ، فبدأنا نفكر في الخروج وراء الاستعمار والهجرة إلى بلاده، هذا هو منطق الشعوب في الشرق الأوسط وإفريقيا. بعض هذه البلدان جربت- لكن لفترات قصيرة- نظم حكم وطنية حقيقية، لكنها لم تصمد ولم تستمر؛ لأنها لم تكن ديمقراطية، ولم تشيد مؤسسات حكم عقلاني رشيد، ولأن تحالف المصالح الأجنبية مع قوى المهادنة المحلية كان أقوى منها، فعادت هذه البلدان مثل غيرها لحكم نخب مستعدة لأمرين: خدمة المصالح الأجنبية سواء دول أو شركات، عرقلة أي تحول ديمقراطي حقيقي، حتى تظل قوة الشعوب مشلولة، ويظل وعيها مشوشاً وتظل إراداتها ضعيفة، وبهذا تظل هذه النخب الفاسدة في الحكم، ومن ثم تظل مصالح الأجانب من دول وشركات مرعية ومخدومة على حساب مصالح الشعوب.
الشرق الأوسط أوطانه مَنافٍ لشعوبه، منافٍ داخلية، منافٍ لا يخفف من وطأتها أوصاف الوطنية، لا تكاد ترى فيه مواطناً مكتمل المواطنة المنصوص عليها في الدساتير والقوانين المجلوبة من الغرب، فقط ترى ناساً محظوظين فوق الدستور وفوق القانون، وأغلبيات منسية ليس لها إلا الدرجات الدنيا من المواطنة من شهادة ميلاد يوم مولدهم إلى شهادة وفاة يوم وفاتهم وبين الشهادتين رحلة قاسية من التهميش والإقصاء. حتى تنال درجة أعلى من درجات المواطنة، يلزمك أن تكون من أولياء هذا أو ذاك في السلطة، يلزمك درجة ما من درجات القرب من أحد النافذين، حتى يمنحك توصية، تفتح لك باباً مغلقاً أو تيسر لك من المصالح ما قد تعسر.
الوطنية دون مواطنة، والوطن دون حقوق، والمواطنة دون فرصة في حياة طيبة، هي جوهر مشكلة الشرق الأوسط، هي أزمته الحقيقية، هي أعماقه التي تغلي النيران في بواطنها، هي وقود الاضطراب، وهي المدد الذي يهدد الاستقرار، وهي التحدي الأكبر الذي يهدد سلام المجتمع واستقرار الدولة، كما هي التحدي الذي يواجه المصالح الأجنبية التي تعودت على توظيف نظم الحكم المحلية في استنزاف البلدان لصالح الأجانب.
ما لم تكن الدولة في الشرق الأوسط لكل مواطنيها على قدم العدالة والمساواة وفق الدساتير والقوانين، فإنها سوف تظل كائناً هشاً في مواجهة التحديات الإقليمية والعالمية، وقد تجلت هذه الهشاشة بكل وضوح خلال فصول حرب الإبادة 2023 – 2025، حيث عجزت كافة دول الشرق الأوسط، الإفريقي منها والآسيوي، العربي منها والإسلامي، عجزت منفردة، كما عجزت مجتمعة، أن تكون لها كلمة موحدة أو متفرقة ذات تأثير في مسار هذه الحرب، باستثناء إيران التي هي وراء جزء كبير من تمويل وتسليح المقاومة سواء في لبنان أو فلسطين أو اليمن، لكن حتى إيران، لم تلبث أن وجدت نفسها ليس بين الحائط وظهرها، إلا أن تلتقط أنفاسها بصعوبة ومشقة، وهي تخسر كل منجزاتها التوسعية الطموحة سواء في جزيرة العرب أو شرق المتوسط، فإيران مثل غيرها نقطة ضعفها في ذاتها، في داخلها، في بنيتها السياسية والاجتماعية، في أنك لا ترى فيها- مثل غيرها- مواطناً حاصلاً على كافة درجات المواطنة وفق الدستور والقانون، إنما هي مثل غيرها أقلية ذات امتيازات وأغلبية محرومة ذات تهميش وإقصاء عن القرارين السياسي والاقتصادي، وما يجلبانه من نفوذ وثروات. بل وحتى دولة مثل، تركيا ذات درجة من الإنجاز العلماني والمدني والديمقراطي والرأسمالي، عجزت كذلك أن تكون لها كلمة ذات تأثير فعلي في فصول الإبادة، وقفت تركيا مثل غيرها تتفرج، الفارق الوحيد الذي اختلفت به هو قدرة حكامها على إنتاج كميات مهولة من التصريحات المبتذلة فاقدة الحياء، تدين وتستنكر وتشجب وكلها ثرثرة من القول، ولغو خال من أي قيمة تدعو للاحترام. العيب ليس في الأشخاص، لا في أشخاص حكام إيران، ولا في أشخاص حكام تركيا، لكن في هشاشة البنية الداخلية التي ما أسهل فرتكتها، وقلبها رأساً على عقب في يوم وليلة، المجتمع في إيران مثل المجتمع في تركيا، لم يصل بعد إلى الحد المعقول من التوافق الوطني وقواعد الاختلاف واقتسام الثروة والسلطة، بما يضمن سلاماً أهلياً يرتكز على قواعد مستقرة قابلة للتجدد والتغير، دون أن تتبدد أو تنهار. الكلام ذاته يصدق في حالة مصر، فبعد ثلاثة أرباع قرن من جلاء المستعمرين، لم يزل الوطن أبعد من أن يكون شراكة عادلة متكافئة متساوية في المغانم والمغارم بين كل المواطنين، ومثل غيرها فليس في مصر مواطن حاز درجات المواطنة الكاملة، فأقليات ذات حظوظ وامتيازات فوق القانون والدستور، بينما الشعب كله لا ينال من المواطنة غير أدنى درجاتها، مواطنة عند حد الكفاف، مواطنة شاقة عسيرة، فيما يخص الحصول على أبسط الحقوق من تعليم وعلاج على سبيل المثال، المصريون متروكون للحظ في التعليم والعلاج، فالمولود في بيت موفور المال له فرص في تعليم أرقى كثيراً جداً جداً من مولود في بيت فقير، ليس أمامه غير تعليم حكومي يفقد بمرور الزمن صلاحيته للمنافسة في سوق العمل، العقد الاجتماعي القديم – من مصر الناصرية- تم التحلل منه بالتدريج من منصف سبعينيات القرن العشرين، قريبا من خمسين عاماً أو أكثر، والسلطة تتحلل ومن التزامها بأصول التعاقد، حررت نفسها من كل قيد، وألقت على الناس كل عبء، سلطة لا تلتزم تجاه المواطن بشيء، تركته لقوانين السوق، وتركت قوانين السوق، يصنعها أصحاب المصالح في الداخل والخارج، لهذا، البنية السياسية والاجتماعية في داخل مصر هشة سريعة التأثر، بما يجري في الإقليم والعالم، ليس لديها ما تناور به من طموح إقليمي مثل إيران، وليس لديها ما تناور به من مقادير متفردة من العلمانية والمدنية والديمقراطية وتداول السلطة دون تزوير الانتخابات مثل تركيا. آ
لكن تظل الدول الثلاث- إيران وتركيا ومصر- مثلهم مثل الهند نماذج للدولة الوطنية القومية ذات الجذور والقادرة على تطوير نفسها ومعالجة مشاكلها الداخلية التي تدور بالأساس حول عدم التوافق الاجتماعي حول القضايا الرئيسية مع تميز لكل من الهند وتركيا على كل من إيران ومصر، ويوم يحدث هذا التوافق- عبر نضال ديمقراطي، ربما يستغرق أجيالاً وأحقاباً- فإن الدول الثلاث يكون في مستطاعها، أن تقف عاجزة عجزاً كلياً وفصول الإبادة تجري، كما شاءت وتشاء لها أمريكا وإسرائيل. وتظل الدول الثلاث- بكل ثغراتها المتفاوتة- أفضل حالاً من نمازج عربية، تنهار أمام الأعين وتتحول من ديكتاتوريات الحزب الواحد أو الأيديولوجيا المهيمنة، مثل عراق البعث، ثم سوريا البعث، ثم سودان الإخوان المسلمين، حيث تعرض العراق لغزو أجنبي، ثم فوضى، ثم حرب أهلية، ثم دولة فصائل، وشهدت سوريا ثورة، ثم حرب أهلية، ثم دولة فصائل، كما شهد السودان ثورة، ثم حرب أهلية، ثم اضمحلت الدولة، وتبخرت الشرعية، والفصائل تعيث خراباً في البلاد، ومن قبل ذلك نموذج ليبيا من ثورة إلى حرب أهلية إلى انقسام، ومثلها اليمن من ثورة إلى حرب أهلية إلى انقسام، كل هذه النماذج جربت ديكتاتوريات لفترة طويلة، مزقت النسيج الاجتماعي، ودمرت قدرة المجتمع على التحاور والتفاهم والبحث عن حلول مشتركة لأجل التعايش العادل في وطن واحد، يحترم حقوق كل مواطنيه على اختلافهم.
حرب الإبادة، وتكسير عظام المقاومة، وتحجيم الحضور الإيراني، وسقوط ديكتاتورية الأسد، وقيام حكم إسلامي سني مكون من فصائل مسلحة، تشكلت في غمار الحرب الأهلية، وتمدد النفوذ التركي في شرق المتوسط وفي شماله وفي البحر الأحمر وإفريقيا، وفوق ذلك كله: خروج إسرائيل من حرب الإبادة دون خسارة علاقتها مع أي دولة عربية أو إسلامية، كل ذلك مؤشر على حقبة تاريخية جديدة، هي حقبة ما بعد حرب الإبادة أو حرب طوفان الأقصى أو حرب 7 أكتوبر 2023. هذه الحقبة الجديد حقبة ما بعد حرب الإبادة وضعت نهاية للحقبة السابقة عليها، وهي حقبة ما بعد الربيع العربي 2011، ومن قبلها حقبة ما بعد 11 سبتمبر 2001، ومن قبلها حقبة ما بعد حرب الخليج الأولى وسقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار الكتلة الشرقية 1991م. لقد انطوت الحقب الأربعة، كل حقبة دامت عشر سنوات بالتقريب، وكلها تؤرخ لمراحل انهيار العالم العربي لصالح إسرائيل وإيران وتركيا وإثيوبيا.
1 – الحقبة الأولى بدأت بغزو الكويت 1990، وتدمير مفهوم الأمن العربي الموحد والعمل العربي المشترك ونهاية شعارات المصير العربي الواحد، وفي ظل هذا الانهيار انعقد اتفاق أوسلو 1993 الذي كان بداية تصفية الحق الفلسطيني، وتمكين إسرائيل بالتدريج من قضم الأراضي الفلسطينية بالاستيطان وتأسيس سلطة فلسطينية تمولها إسرائيل وأمريكا والاتحاد الأوروبي، وتكوين وظيفتها الفعلية قمع الطموحات الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، بما يخدم إسرائيل التي لم تترك وسيلة ممكنة لإفساد هذه السلطة الفلسطينية.
2 – الحقبة الثانية بدأت مع 11 سبتمبر 2001، أي من ربع قرن، وهو أسوأ ربع قرن في تاريخنا، حيث تفرغت أمريكا للحرب العسكرية والسياسية والثقافية والاستخباراتية على كل بلادنا، الحرب شملت الجميع، لم تقتصر فقط على غزو أفغانستان والعراق، لكن توسعت باستراتيجية الفوضى الخلاقة؛ لتهز كافة ركائز الاستقرار في الإقليم تحت كافة اللافتات النبيلة من حقوق الإنسان إلى الثورة إلى القيم العالمية، وكانت النتيجة هذا هو الشرق الأوسط أمامك، لم يفلت من الدمار فيه بشر ولا شجر ولا حجر، ربع قرن عدواني أمريكي لئيم خبيث.
3 – الحقبة الثالثة بدأت مع الربيع العربي 2011، والربيع العربي ثلاثة مكونات: مكون ثوري شعبي حقيقي، ثم مكون أجنبي حقيقي، ثم ثورات مضادة حقيقية. المكون الشعبي هز الشجرة بنجاح، فتساقطت الثمرات العفنة، المكون الأجنبي كان يعمل من قبل الربيع لعشر سنوات في صنع الفوضى الخلاقة، الثورة المضادة انتصرت مدعومة بقوى المال والإعلام والدبلوماسية الخليجية، حيث استشعر الخليج الخطر ثلاث مرات: مرةً في الثورات ذاتها، أن تنتقل بالعدوى أو بالإغراء أو بالإيحاء، ثم مرةً من تأييد أمريكا والغرب للثورات، ثم مرة أخطر وهي قفز تنظيمات الإسلام السياسي على السلطة في بلدين محوريين مثل مصر وتونس.
4 – الحقبة الرابعة تبدأ من بعد حرب طوفان الأقصى 2025، وعنوانها الأكبر تخليع ما بقي من أسنان الشرق الأوسط، تخليع ما بقي من أسنان المقاومة سواء في فلسطين أو لبنان أو اليمن، تخليع أنياب إيران، أي اجهاض النووي، غير مسموح بعودة التمدد الإمبراطوري لإيران في الشرق الأوسط، لكن دون تخليع أسنانها بالكلية، بعض الأنياب مرغوبة لتخويف عرب الخليج، كما بعض الأنياب مرغوبة للتوازن مع تركيا وأهل السنة عموماً، غير المرغوب هو تهديد أمن إسرائيل سواء من إيران أو حلفاء إيران. أما تركيا فمسموح لها من جانب إسرائيل وأمريكا وعموم الغرب، أن تتمدد في كافة مسارح العمليات في الشرق الأوسط التي انحسر عنها النفوذ الإيراني، تركيا هي بديل اسرائيل وأمريكا في تقليم أظافر إيران وحلفائها.