كان متوقّعاً جدّاً أن يتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، محكمة الجنايات الدولية بـ"معاداة السامية"، وهي تهمة زائفة ومستهجنة، وطالما تشدّقت بها إسرائيل، واتهمت بها كل من ينتقد فظاعاتها أو يتجرّأ بمجرد الإشارة إلى الجرائم الشنيعة التي اعتادت ارتكابها ضد الشعب الفلسطيني منذ نشأتها، لكن المثير في السخرية والاستهجان أن يقارن قرار المحكمة القاضي باعتقاله واعتقال وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، يوآف غالانت، بمحاكمة الضابط الفرنسي اليهودي، الذي اتهم ظلماً في عام 1894، بتسريب أسرار ومعلومات عسكرية إلى الجيش الألماني خلال الحرب بين البلدين، فشتان بين المجرم المتغطرس والمظلوم البريء، لأن التهم الموجّهة إلى نتنياهو وغالانت صدرت عن أرفع جهة قضائية دولية، وبُنيت على أدلة جمعتها المحكمة منذ 8 أكتوبر 2023، ووجد قضاتها أن "أسبابا منطقية" للاعتقاد بأنهما ارتكبا بشكل ممنهج جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزّة، وتشمل استخدام التجويع سلاح حرب، وحرمان المدنيين الفلسطينيين أساسيات الحياة، إضافة إلى أعمال القتل المتعمّد والاضطهاد وغيرهما من الأفعال غير الإنسانية.
بالفعل، إنه يوم أسود، حسبما قال الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، لكن ليس للعدالة، وليس للإنسانية، بل يوم أسود لساسة إسرائيل وجنرالاتها، ولكل مجرمي الحرب فيها، فقرار المحكمة تاريخي بكل معنى الكلمة ومبناها، وسابقة بالنسبة إلى العدالة الدولية، وللقضية الفلسطينية، وللضحايا وذويهم. لذلك، لم يكن مستغرباً ارتفاع وتيرة الموجة الهستيرية المرَضية، التي أصابت الساسة والعسكريين الإسرائيليين وحلفاءهم في الولايات المتحدة، وأن تصدر عنهم ردات فعل هابطة المستوى، ومنحطّة أخلاقياً، تنمّ عن ظلام دامس تغطّ فيه واحتهم الديمقراطية الزائفة التي أوجدها مستوطنون في منطقة الشرق الأوسط.
يمكن القول إن المحكمة الدولية تمكّنت من النجاح في مواجهة التحدّي الذي يختبر استقلاليتها ومصداقيتها، في ظل الاتهامات الموجهة ضد المدعي العام كريم خان بسوء السلوك الجنسي. وما يسجّل لقضاة المحكمة أنهم أصدروا القرار بالرغم من ضغوط هائلة، تعرّضوا لها منذ بدأت المحكمة بجمع الأدلة على جرائم الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، وخصوصاً من الولايات المتحدة. فضلاً عن أن محاولات ساسة إسرائيل للطعن في شرعية المحكمة ومصداقيتها وولايتها القضائية ذهبت كلها هباءً، وذهبت معها محاولة دولة الاحتلال الطعن في حيادية القاضية بيتي هولر التي عُينت في 25 أكتوبر الماضي، بدلاً من القاضية الرومانية جوليا موتوك، التي كانت ترأس الغرفة التمهيدية للمحكمة وتنظر في مذكرات اعتقال نتنياهو وغالانت، "لأسبابٍ صحية" لم يُكشَف عنها.
للقرار أهمية كبيرة على مستويات عديدة، على الرغم من صعوبات تنفيذه. وتنبع أهميته ليس فقط من أن كلاً من نتنياهو وغالانت أصبحا مطلوبَين للعدالة الدولية، ومعرَّضين للاعتقال في الدول الأعضاء في المحكمة (124 دولة)، وأنهما باتا معزولين، وأصبحت إسرائيل سجناً لهما، بل لأنه يسهم في زيادة الغضب الدولي على حرب الإبادة التي تشنها منذ أكثر من عام على الفلسطينيين في قطاع غزّة. إضافة إلى عواقب كثيرة، تشمل منع نتنياهو من إلقاء أي خطاب في المستقبل في الأمم المتحدة، لكونه بات مطلوباً للعدالة الدولية، وبالتالي، لن يكون بإمكانه التهجّم مجدّداً على الأمم المتحدة من على منبرها، مثلما فعل أمام الجمعية العامة في 27 سبتمبر الماضي، حين وصف الأمم المتحدة بأنها "بالوعة من العصارة الصفراوية المعادية للسامية، يجب تجفيفها"، وأنها إذا لم تمتثل لما يريده، فلن "تكون أكثر من مهزلة حقيرة". ولعل الأهم أن القرار ستكون له امتدادات تخصّ احتمال وجود أوامر اعتقال سرّية، حيث لم تنشر المحكمة فحوى أوامرها، بل نشرت معلومات عن الأسباب التي أفضت إلى إصدارها، حيث يمكن أن يكون هناك تبعاتٌ على قادة عسكريين، مثل رئيس هيئة الأركان هيرتسي هليفي ومسؤولين إسرائيليين آخرين. إضافة إلى الإرهاصات والتداعيات السياسية والأمنية والتجارية، وخصوصاً صفقات الأسلحة التي تبرمها إسرائيل مع الدول الغربية، بالنظر إلى أن لدى كل الدول الأوروبية قوانين محلية تمنعها من التعاون الاقتصادي مع دول يرتكب ساستها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، الأمر الذي يعني أن القرار يطاول ليس فقط نتنياهو وغالانت، بل الكيان الإسرائيلي برمته.
يسهم القرار في إماطة اللثام عن حقيقة الوجه الديمقراطي الذي تحاول إسرائيل تسويقه للعالم، ويكشف أنها دولة يقودها مجرم حرب متغطرس وعنصري. كذلك يردّ القرار شيئاً من الاعتبار للقانون الدولي والمحاكم الدولية، في ظل سياسة الإفلات من العقاب، ومنع الولايات المتحدة مجلس الأمن من اتخاذ أي قرار دين جرائم إسرائيل، ويوقف حرب الإبادة الإسرائيلية على أهل غزّة. يضاف إلى ما سبق أن القرار يشجّع على رفع دعاوى ضد المسؤولين الإسرائيليين أمام محاكم أوروبية محلية، تسمح قوانينها بمحاسبة مجرمي الحرب، مثل بريطانيا وبلجيكا وهولندا ونيوزيلندا، ضمن سلطة الولاية القضائية، أو القضاء الكوني، الذي سبق أن لاحق مسؤولين إسرائيليين وغيرهم بمقتضى دعاوى ضدهم في هذه الدول. كذلك فإنّ قرار محكمة الجنايات الدولية يمكن أن يقدّم دعماً لمحكمة العدل الدولية التي ما زالت تنظر في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا، وتتهم فيها إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في قطاع غزّة، لكونه يعزّز قضية تعمّد الإبادة التي ترتكبها إسرائيل، بالنظر إلى أن القرار صادر عن محكمة جنائية دولية، يمكن الاستناد إلى أدلتها وقراراتها.