كانت مثل مشاهد من فيلم: داهمت قوات الأمن منزل أحد الرجال ليلاً، وعبث بمحتوياته، والاعتداء عليه، واقتياده معصوب العينين إلى مكان مجهول؛ وأوقفت قوات الأمن بملابس مدنية رجلاً آخر في سيارته، واقتادته قسراً إلى مكان مجهول. لكن هذا لم يكن فيلمًا؛ بل كان الواقع على الأرض في مصر عندما تم القبض على رسام الكاريكاتير السياسي أشرف عمر والشخصية المعارضة يحيى عبد الهادي قبل أيام قليلة واحتجازهما في الحبس الاحتياطي بتهم مسيسة.
واجه آخرون محنة مماثلة. على سبيل المثال، تم القبض على الصحفي السابق بقناة إم بي سي خالد ممدوح من أمام منزله في حي المقطم بالقاهرة فجر الثلاثاء 16 يوليو، واختفى قسريًا لعدة أيام، وعندما ظهر كان أمام نيابة أمن الدولة العليا كأحد المتهمين في القضية رقم 1282 لسنة 2024، وفقًا لمؤسسة حرية الفكر والتعبير.
تم القبض على الصحفي بجريدة اليوم رمضان جويدة شحاتة في أوائل مايو واختفى لمدة 40 يومًا تقريبًا، قبل أن يتم عرضه على النيابة في 10 يونيو، وتم إرساله إلى السجن ونقله إلى سجن وادي النطرون شمال مصر.
تشمل القواسم المشتركة في جميع الحالات المذكورة أعلاه الاختفاء القسري لأيام أو أسابيع؛ ومواجهة تهم مثل الانضمام إلى جماعة إرهابية، وتمويل جماعة إرهابية، ونشر وبث أخبار وبيانات كاذبة، وإساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي. هذه هي التهم المعتادة المستخدمة ضد معارضي النظام في مصر.
وتحتل الجمهورية المرتبة 170 من بين 180 دولة في التصنيف العالمي لمؤشر حرية الصحافة لعام 2024، الذي تصدره منظمة مراسلون بلا حدود.
وتتزامن الاعتقالات الأخيرة للسياسيين والصحفيين مع ما يسمى بجلسات الحوار الوطني.
وخلال الأسابيع القليلة الماضية، ناقشت هذه الجلسات قضية الحبس الاحتياطي، وحان الوقت تقريبًا لتقديم التوصيات النهائية إلى رئيس الانقلاب عبد الفتاح السيسي، مصحوبة بقوائم بأسماء المعتقلين، للنظر فيها.
لم يخطر ببال عمر قط أن رسومه الكاريكاتورية الساخرة عن ديون البلاد وانقطاع الكهرباء وبيع أصول الدولة، المنشورة على موقع المنصة، ستقلب حياته رأسًا على عقب كسجين في سجن العاشر من رمضان، على ذمة القضية رقم 1968 لسنة 2024 نيابة أمن الدولة العليا. ربما كان ينتظر انفراجة سياسية من الحوار الوطني، لكن رسائل السلطة كانت قاسية تجاه رسام الكاريكاتير الشاب، حيث تعرض للضرب والتعذيب والتهديد بالصعق الكهربائي، بحسب منشور لزوجته ندى مغيث على فيسبوك.
قال الصحفي المعروف أنور الهواري، رئيس تحرير صحيفة المصري اليوم السابق، على فيسبوك بعد مكالمة هاتفية مع أحد المحامين التي أكدت تعذيب عمر في السجن: "الجحيم هو أن يكون لشخص رأي مختلف في بلد قمعي بهذه القسوة".
القسوة لها وجوه أخرى في مصر كما عبر عنها نقيب الصحفيين المصريين خالد البلشي. ففي كلمته أمام جلسة الحوار الوطني حول الحبس الاحتياطي الشهر الماضي، دعا إلى حماية الأسر التي تفقد معيلها. واستشهد بقضية الصحفي ياسر أبو العلا الذي سُجن مع زوجته وشقيقتها في القضية رقم 2369 لسنة 2024، وترك أطفالهما بلا من يرعاهم، وأضاف أن روح القانون تقتضي الإفراج عن أحدهما لرعاية الأسرة.
أدانت إحدى عشرة منظمة حقوقية الأسبوع الماضي العمليات الأمنية المستمرة التي تستهدف الصحفيين المصريين والتي أدت إلى اختفائهم قسريًا، وقالت إن محاكمة الصحفيين المصريين تسخر من مزاعم أن مصر تمر بمرحلة من الانفتاح السياسي.
وتعقد جلسات "الحوار الوطني.. الطريق إلى الجمهورية الجديدة" للعام الثالث على التوالي، بمشاركة الحركة المدنية الديمقراطية التي تم اعتقال مؤسسها والمتحدث السابق باسمها.
ويصفها المنتقدون بأنها حوار استبدادي تحت شعار "سأتحدث إليك ثم أعتقلك".
وتصف الحركة المدنية الديمقراطية التي تضم أحزابا معارضة ليبرالية ويسارية سجن مؤسسها بـ"ترهيب الدولة". وعبر المسؤولون عن إحباطهم العميق من طريقة اعتقال عبد الهادي البالغ من العمر 70 عاما.
ومنذ دعوة السيسي في أبريل 2022 لأول حوار وطني من نوعه، لم تتوقف عمليات اعتقال المعارضين من التيارات الإسلامية والليبرالية واليسارية، رغم القرارات المتتالية بالعفو عن بعض المسجونين في قضايا حرية التعبير.
ويفسر الصحفي عمرو الشرقاوي هذا التناقض بقوله إن نظام الحكم أمني في المقام الأول، ورأي أي ضابط في الأمن الوطني له الأولوية على رأي السياسيين. وقضية الحوار الوطني لا تخص الأجهزة الأمنية، لذلك عندما يتم اعتقال صحفيين أو شخصيات بارزة من المعارضة، يبدو النظام معزولا. وقد لا يسمع السياسيون خبر اعتقال الشخصيات البارزة إلا من وسائل الإعلام. أما من يرتب للاعتقال فهو الجهاز الأمني الذي يدير المشهد السياسي في البلاد.
ويرى المسؤول عن الملف الأمني في إحدى الصحف اليومية المصرية، والذي طلب عدم ذكر اسمه، أن من المرجح أن يكون عبد الهادي، الضابط السابق في الجيش، قد اعتقل بسبب منشور له على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، تساءل فيه إلى متى سيظل الجيش صامتا.
مع اعتقال عبد الهادي على وجه الخصوص، وقبله البرلماني السابق أحمد طنطاوي في مايو، يبدو أن النظام في القاهرة ربما يكون على وشك رفع مستوى القمع والتنكيل بالمعارضة. وهذا يبعث برسالة مفادها أن هذه الاعتقالات ستستمر لتصل إلى آخرين، وأن قيادات ورموز الحركة الديمقراطية المدنية ليسوا بمنأى عن قبضة النظام الذي يتحاور مع الناس ويعتقلهم في نفس الوقت. وفي الوقت نفسه، لا تملك المعارضة أي أوراق ضغط، باستثناء بيانات الإدانة، أو ربما تجميد المشاركة في جلسات الحوار. ويبدو الأمر كما لو أنهم يجلسون على طاولة الحوار وبندقية موجهة إليهم.
ومددت السلطات المصرية فترة الحبس الاحتياطي لما لا يقل عن 125 شخصاً، قبل وقت قصير من عقد إحدى جلسات الحوار الوطني المخصصة لمناقشة مثل هذا الاعتقال، بحسب رويترز. ويسمح قانون الإجراءات الجنائية المصري بإبقاء المعتقلين في الحبس الاحتياطي لمدة تصل إلى عامين. لكن السلطات المصرية كثيراً ما تحتجز الناس لفترة أطول من ذلك.
ومنذ بدء نظام الحوار الوطني، أطلق السيسي سراح مئات السجناء السياسيين، لكن المدافعين عن حقوق الإنسان يقولون إن عدد الأشخاص الذين تم اعتقالهم خلال نفس الفترة يبلغ ثلاثة أضعاف عدد المفرج عنهم على الأقل.
وبحسب الباحث السياسي محمد جمعة، فإن الحوار الوطني ليس سوى تمرين إعلامي وعلاقاتي لتحسين صورة النظام، وهو النهج الذي تم اتباعه منذ الانقلاب العسكري في عام 2013. وأشار إلى أن القمع سيستمر طالما ظل السيسي في السلطة.
التهديدات المستمرة بالقمع في مصر تثير الشكوك حول فعالية الحوار الوطني. فالشعب المصري لا يعتقد أن السلطات لديها أي نية حقيقية لتحسين الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد. ولم ينقذ الحوار شخصيات المعارضة من الاعتقال والتعذيب. وهذا يعزز الادعاء بأن هذا الحوار لا جدوى منه لأنه حوار تحت تهديد السلاح. وهذا ليس حوارًا على الإطلاق.

