إنّ هدف الدعوة والجهاد واحد وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وقد وَعي النبي- صلى الله عليه وسلم- هذا جيدًا، فكان يقوم بالدعوة إلى الله ويصدح بها في آذان الناس، ويُجاهد في سبيل ذلك جهادًا كبيرًا، ثمّ سار على هذا الدّرب المنير أصحابه الكرام- رضوان الله عليهم-، ونتيجة كل هذا بالطبع رضوان الله- سبحانه وتعالى- والفوز بالجنة.

لكن كلمة الجهاد لم تعد تُعطي المدلولات التي فهمها الصحابة والتابعون، والتي جاء بها القرآن الكريم والسنة المطهرة، إذا إنها تعني في عُرف بعض الدّعاة القتال، وأنه لا جهد بلا قتال، ونتيجة لهذا الفهم فقد ظهر في العالم الإسلامي أُناس يريدون القتال ولو لم يَحنْ وقته وتستكمل عُدّته، شعورًا منهم بأن الإثم يُطاردهم وهم لا يقاتلون.

مفهوم الدعوة والجهاد
ويُمكن التّعرف إلى معاني الدعوة والجهاد من خلال معرفة كل واحدة على واحدة، حيث إن الدعوة في اللغة مشتقة من الفعل الثلاثي دعا يدعو دعوة، والاسم: الدعوة، والقائم بها يسمى داعية، والجمع: دعاة، ولها عدة معان، منها: النداء، والطلب، والتجمع، والدعاء، والسؤال، والاستمالة. وقال الزمخشري: دعوت فلانا وبفلان ناديته وصحت به، وفي الاصطلاح يراد بها في الغالب معنيان: الأول، الدعوة بمعنى الإسلام أو الرسالة، والثاني: الدعوة بمعنى عملية نشر الإسلام وتبليغ الرسالة.

وأما الجهاد فهو بَذلُ الجُهدِ والطَّاقةِ وتَحمّلُ المشقّةِ في سبيلِ تحقيقِ أوامرِ اللهِ سُبحانَهُ وتعالى، وقد فرض الله- عز وجل- الجهاد على المسلمين، وأمرهم بالجهاد في سبيله، ووعد المجاهدين أجرًا عظيمًا، والجهاد أنواع مختلفة، وهي: جهاد النفس والهوى، وجهاد الشيطان، والجهاد البنائي بالإسهام في بناء الأمة.

الدعوة والجهاد في القرآن والسنة
واهتمت الشريعة الإسلامية بمصدريها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بموضوعي الدعوة والجهاد في سبيل الله من أجل إخراج الناس من الضلال إلى الحق ومن الظلمات إلى النور، فقال الله تعالى عن الدعوة: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 110]، وقال سبحانه: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143].

وقال سبحانه: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 41]، وهي مهمة الأنبياء والرسل كما ورد في العديد من الآيات المبينات، ومنها قوله تعالى: قوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأنعام: 48].

وعن الجهاد، قال سبحانه: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 142]، ويشمل الجهاد أوجه عديدة، قال- عز وجل-: ﴿لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيما﴾ [النساء / 95].

وبيّن النبي- صلى الله عليه وسلم- فضل الدعوة إلى الله، فعن عبدالله بن مسعود- رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “نضَّر الله امرأً سمع منا شيئًا، فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع” (الترمذي)، فقد خَصَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- حافظ سنَّته ومبلغها بهذا الدُّعاء؛ لأنَّه سعى في نضارة العلم وتجديد السُّنة، فجازاه في دعائه له بما يناسب حاله في المعاملة.

وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأ‌نصاري البدري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “من دلَّ على خيرٍ، فله مثل أجر فاعله” (مسلم)، وعن أبي رقية تميم بن أوسٍ الداري- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “الدِّين النصيحة”، قلنا: لِمَن؟ قال: “لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم” (مسلم).
وبيّن النبي- صلى الله عليه وسلم- أن الجهاد الحق هو ما كان في سبيل الله تعالى، وأريد به وجهه، وحذر ممّا سوى ذلك، وبين سوء عاقبته، فعن أبى موسى الأشعري- رضى الله عنه-: أن “رجلا أعرابيا أتى النبي فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله: “من قاتل لتكون كلمة الله أعلى، فهو في سبيل الله” (البخاري ومسلم).

وفي الصحيحين عن سهل بن سعد- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: “رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها”.

أهداف الدعوة والجهاد
ويمكن حصر أهداف الدعوة والجهاد في سبيل الله- عز وجل- في ثلاثة أهداف أساسية، على النحو التالي:

التعبُّد لله بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهي أصل الدعوة إلى الله- عز وجل- والجهاد في سـبيله سبحانه، فشعور الداعية أنَّهُ عبد لله، يحبُّ ربه ويحب ما يحبه ربه من الدعوة والجهاد، يُعدُّ من أكبر الدوافع إلى بذل الجهد والجهاد في سبيل الله تعالى.
إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ظُلم الأديان إلى عدلِ الإسلام، ومن ضيقِ الدنيا وشقائها إلى سعتها وسعادتها، ومن عذابِ النار يوم القيامة إلى جنات النعيم، وعندما يتذكرُ الداعية هذه المهمة الجسيمة، وهذا الهدف الأساس من دعوته وجهاده، فإنَّهُ يُضاعفُ من جهده، ولا يقرُّ له قرار وهو يرى الشرك المستشري في الأمة، والفساد المستطير في مجتمعات المسلمين؛ والذي يؤول بالناس إلى الشقاء والظلم وكثرة المصائب في الدنيا، وإلى العذاب الأليم في الآخرة.
الفوز برضوان الله تعالى وجنته: وهذا هو ثمرة التعبُّد لله- عز وجل-، وهي الغاية العظمى التي وعد الله بها عباده الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والداعين إليه على بصيرة، وعندما ينشدُ الداعية إلى هذه الغاية، وتنجذب نفسه إليها، فإنَّهُ يستسهل الصعاب، ويمضي في طريقه بقوةٍ وعزيمة وثبات، كما أنه عندما يتعلق بهذه الغاية العظيمة ولا ينساها، فإنَّهُ بذلك لا يلتفت إلى أعراض الدنيا الزائلة، ولا ينتظرُ جزاءَ عمله ودعوته وجهاده في الدنيا، وإنَّما يروضُ نفسه ويُربِّيها على أن تعطي من صبرها وجهدها وجهادها، ولا تأخذ منه شيئًا في الدنيا، وإنما تنتظر العطاء والثواب في الدار الآخرة.
إن الدعوة والجهاد أهدافهم واحدة أهمها دعوة الناس جميعًا إلى الإسلام الصحيح وإخراجهم من الظلمات إلى النور وإنقاذهم من مصير جهنم إلى جنات النعيم، وإن كانت الدعوة بالكلمة والقول فإن الجهاد لم يقصد به الحرب من أجل القتال، وإنما شرع لأجل الحفاظ على السلام من اعتداء الظالمين على الضعفاء، ولهذا جاء الإسلام وسطا، فلم يجعل الحرب أصلا، ولكنه لم يكن يوما ما دين ذل وهوان، بل دين قوة وعزة: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].