لم تشفع التمويلات الدولية المقدرة بنحو 55 مليار دولار في إنقاذ مصر من أزمتها الاقتصادية الخانقة، والتي تستمر منذ ما يقرب من 50 سنة ماضية.

وتعتبر أزمة نقص أو تسرب العملة الأجنبية للخارج، من أكبر المشاكل الهيكلية التي تواجه مصر خلال السنوات العشر الماضية، والتي أوضح خبراء الاقتصاد أن حلها يكون في زيادة الصادرات، وتغيير في الهيكل الاقتصادي لتقوية لبعض القطاعات وأهمها الصناعة، وتصدير الخدمات وتكنولوجيا المعلومات والأدوية والسلع الغذائية، مما ينعكس على تحسين الاقتصاد المصري.

وتحدث خبراء سياسيون واقتصاديون في ندوة بالمركز المصري للدراسات الاقتصادية في القاهرة، ورأوا أن الدولة فقدت هويتها الاقتصادية، منذ أربعة عقود، فهي ليبرالية، عندما تمدّ يدها للحصول على قروض من المؤسّسات الدولية، الداعمة للقطاع الخاص وحرية تداول المعلومات والرقابة الشعبية، بينما تمارس اقتصادًا اشتراكيًا عند التطبيق، فتبعد القطاع الخاص عن مسارها وتدفع بالجيش والهيئات العامة لتفرض قبضتها وسلطتها على حرية التصرف بالمال العام على مشروعات غير إنتاجية، تدفع إلى أزمات اقتصادية عميقة، تواجهها بمزيد من القروض والتخفيض المستمر بقيمة العملة، دون أن تتجه إلى إصلاح سياسي يمهد لإصلاح اقتصادي شامل ومستمر.

 

مجموعة من الدراويش تدير الاقتصاد

وأبدى الخبراء دهشتهم من إدارة الاقتصاد المصري بروح متشبعة بروح الدراويش "الصوفية"، لدى المسؤولين والوزراء، بعيدًا عن القواعد العلمية، والاعتقاد أن مصر لن تقع لأنها "دولة محروسة لا يتحمّل العالم انهيارها"، والاعتماد المفرط على القروض والدعم الخليجي، وبيع الأصول العامة من الأراضي النادرة، وعقد صفقات يتعذر تكرارها، بما يدفعها إلى مزيد من الاستدانة، ويؤدي لتدهور مستويات التعليم والصحة وزيادة معدلات الفقر.

وتخوّف نائب رئيس اتحاد الصناعات المصرية، طارق توفيق، من استمرار السير في الاتجاه الخاطئ، بينما يحتاج المستثمرون إلى إعادة بناء الثقة، وإزالة الحالة الضبابية عن اقتصاد تديره الحكومة بدون رؤية والنظر تحت أقدامها لتحصيل الريع، دون أن تشجع المستثمر الصناعي والجاد.

وحذّر توفيق من تعثر اقتصادي جديد في المرحلة المقبلة، إذا لم تحدد السلطة الهوية الاقتصادية للدولة، وتوقف تدخل الحكومة والجهات الرقابية في منافسة المستثمرين، قائلًا: "لا حياد تنافسيًا في ظل استمرار تحكم الحكومة وجهازها البيروقراطي في التنفيذ والرقابة والمنافسة على تقديم السلع والخدمات للجمهور". وطالب توفيق بضرورة توقف المسؤولين عن طرح حلول للمشاكل الاقتصادية عبر نزعات صوفية تدعي أن مصر محروسة لا يمكن أن تقع لأنها في رعاية الله، مؤكدا أن الإيمان بالله لا يعني أن نترك القرار لغير العارفين به، وأن تتوقف أعمال المحاسبة والرقابة والشفافية.

 

اقتصاد بلا هوية

وقال رئيس المركز المصري، ومدير الندوة، عمر مهنّا، إن الاقتصاد المصري يسير منذ عقود بلا هوية، ولا يجد من يديره حاليًا، فالحكومة تعتمد على تسييره عبر شخصياتٍ تملأ الفراغ، فتارّة تتركه لمحافظ البنك المركزي السابق، طارق عامر، الذي أوقعه في مشاكل عديدة، في وقت تعهدت الدولة فيه بفتح المجال أمام القطاع الخاص، بينما يقوم حاليًا وزير المالية محمد معيط بالدور نفسه، حيث تسبّبت وزارته في أكثر من ثلثي المشكلات التي تعاني منها الشركات والقطاع الخاص.

 

سبل الخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة

وعرضت المدير التنفيذي ومدير البحوث في المركز، عبلة عبد اللطيف، دراسة فنية حول سبل الخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة، استنتجت منها أن الأزمة الاقتصادية لم تنته بعد، وأن ما توصلت إليه الحكومة من اتفاق مع صندوق النقد والدول الداعمة، هو مجرّد حلول مؤقتة لمشكلات اقتصادية مزمنة، مبينة أنه على الرغم من التأثير الواضح للأوضاع العالمية المرتبكة على اقتصادنا، بداية من انتشار جائحة كوفيد 19 مرورًا بحرب روسيا – أوكرانيا، وانتهاء بحرب غزّة، إلا أن الضعف الهيكلي المؤسّسي للاقتصاد فاقم من هذه الأزمات وزاد من حدتها، وأدّى إلى دائرة مفرغة من ضعف الأداء.

وأكدت عبد اللطيف بطء امتثال الحكومة لبرنامج صندوق النقد الدولي الموقع عام 2022، ما أدّى إلى تأخير برامج المراجعة، وانعدام الثقة، في ظل تمسك الحكومة باستمرار تنفيذ خطط المشاريع الضخمة، التي وضعتها من قبل على الرغم من نقص النقد الأجنبي، ولجوئها إلى زيادة مفاجئة في ضرائب الدخل والرسوم وأسعار الكهرباء والغاز، بينما آلة الإنتاج لا تزال مشلولة.

وتبيّن الدراسة التي أجراها المركز المصري للدراسات الاقتصادية أن مصر واقعة في فخ حلقة مفرغة من أداء الاقتصاد المصري الضعيف، ومن ذلك ارتفاع البطالة الهيكلية، ومحدودية الاستثمارات المحلية والأجنبية والصادرات ذات القيمة المضافة العالية، والاعتماد المفرط على الواردات، وارتفاع العجز التجاري ومستويات الاستثمار البشري المتواضعة في التعليم والصحة وانخفاض العدالة الاجتماعية والمساواة وزيادة الفقر.

 

الابتعاد عن النمو الصناعي والزراعي

كما تبيّن الدراسة اعتماد الدولة على اقتصاد ريعي، يبتعد عن النمو عبر زيادة الإنتاج الصناعي والزراعي، مع اقصاء القطاع الخاص في زيادة معدلات النمو، وتركيز الحكومة في تحقيق النمو على قطاعات كبرى كالمشروعات العقارية وتمويل البنية الأساسية بالدين، والهوس بجلب الأموال الساخنة المتقلبة، والاعتماد على الودائع الخليجية كمكونات للاحتياطي النقدي الأجنبي، ما يجعل الحلقة المفرغة أشد شراسة. وأكدت بقاء نمو الاقتصاد خلال الفترة من 2010-2022، في وضع متقلب عند مستويات ضعيفة، بمتوسط ما بين 3% -4.3%. وخلصت الدراسة إلى أن الدولة ملزمة بسداد أقساط ديون حكومية بقيمة 44 مليار دولار حتى عام 2040، ما يجبرها على اللجوء إلى مزيد من الاقتراض، بينما تزداد الاضطرابات الخارجية سوءًا، وتبقى فرص التصدير محدودة.

وشدّدت الدراسة على أن الخروج من الأزمات الاقتصادية بشكل دائم يتطلب تنفيذ إصلاح مؤسّسي كامل وتغييرًا بالسياسات، لافتة إلى أن الإصلاحات المؤسّسية المطلوبة ليست بالضرورة إجراءات طويلة المدى ولكن هناك إصلاحات يمكن تنفيذها على المدى القصير وتؤدّي إلى نتائج إيجابية سريعة، لأن هذا هو الطريق لتحقيق معدلات نمو تتناسب مع قدرات مصر الاقتصادية.

 

حلول واقعية

وأرجع وزير التضامن الاجتماعي السابق، جودة عبد الخالق، استمرار الأزمة الاقتصادية في مصر إلى عدم وجود رؤية أمام النظام للخروج منها، وعدم استجابته للتوصيات التي وضعها الخبراء على مدار العامين الماضيين، لتحقيق إصلاح شامل، مكتفية بوضع ما أسفرت عنه اجتماعات الحوار الوطني داخل أدراج الثلاجة الحكومية. وشدد عبد الخالق على أهمية تحقيق إصلاح سياسي شامل، وإبعاد الشلة المنتفعة المستفيدة من بقاء الأوضاع الحالية على ما هي عليه، والدعوة إلى تحديد موعد لإجراء انتخابات المجالس المحلية، وتعديل نظام انتخاب البرلمان الحالي، وإبعاد الجيش عن المنظومة الاقتصادية، على أن يدار الاقتصاد برجاله وخبرائه.