“هل من ميتة غير التي تقسم وجهك كتلة إسمنتية ضخمة؟ أو أن تموت ببطء عالقًا بين الركام تسمعهم يحاولون الوصول إليك ويعجزون؟ يموت الناس عادة يا الله في أسرتهم دافئين، أو كهولًا ملوا من الحياة ونعيمها، أما نحن فنموت قبل أن نحيا، نموت أطفالًا لا نذكر من الدنيا سوى الجوع والحصار والهلع، نموت جوعى في عالم تفيض قمامته بالطعام، تصعد أرواحنا إليك وقلوبنا ترف خوفًا على ذوينا وأصدقائنا لا أنفسنا”.

كانت تلك الكلمات المؤثرة للشهيد الطبيب الفلسطيني الشاب مصطفى النجار، وهي كلمات ستبقى خالدة ليرويها في سجلّ الشهداء الخالدين الأحياء.

كان النجار، رحمه الله، يروي حكاية نجاته من القصف الصهيوني أربع مراتٍ متتاليةٍ، لكنّه لم يعلم أنّ الخامسة في 6 من فبراير 2024 ستكون طريقه إلى عليين، حيث يرتقي الشهداء الكرام لرضوان الله ورحمته، ليصير هو “الحكاية” وليس الراوي.

 

حكايات من مآسي الجوع في غزة

هذه الحالة المأساوية التي يرويها النجار (رحمه الله)، واحدة من آلاف الحالات المنتشرة في كل القطاع، تشكو قلة الطعام وندرة المياه وغياب العلاج.

تقف الفلسطينية وردة أحمد مطر (36 عامًا) حزينة وحائرةً أمام بكاء رضيعها الجائع؛ في ظل عجزها عن إرضاعه بسبب سوء التغذية؛ جراء حرب مدمرة تشنها إسرائيل، مما استدعى خضوعها لمحاكمة مستمرة أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب أعمال إبادة جماعية.

‏ولعدم توفر حليب الأطفال في صيدليات مدينة رفح أقصى جنوبي قطاع غزة، تضطر الأم النازحة من مخيم جباليا (شمال) إلى وضع تمرة في فم رضيعها حتى يتوقف عن البكاء، في ظل أوضاع مأساوية يعانيها النازحون تحت قصف وحصار إسرائيليين.

ومنذ بداية الحرب الإسرائيلية، في 7 أكتوبر الماضي، تعاني النساء في غزة قبل الولادة وبعدها أوضاعًا صعبة للغاية؛ بسبب شح الغذاء وندرة الرعاية الطبية؛ إذ دمرت الغارات الإسرائيلية المنظومة الصحية في القطاع الذي يقطنه نحو 2.4 مليون نسمة.

 

سوء تغذية

بينما تحاول الأم الملتاعة تهدئة رضيعها الجائع، تقول: "بسبب عدم توفر الحليب، أضع لرضيعي تمرة في فمه، حتى يتوقف عن البكاء". وتضيف مع نظرة حزن ووجه شاحب: "لا وجود للحليب ولا يوجد تغذية مناسبة للأطفال والنساء يعانون من سوء التغذية؛ بسبب النقص الحاد في البضائع والاحتياجات الأساسية وارتفاع الأسعار".

"‏في الوضع الطبيعي كانت النساء تستطيع الحصول على التغذية السليمة والصحية، لكن في ظل استمرار الحرب لا يوجد مجال للتغذية السليمة، فأوضاع الناس صعبة للغاية"، كما تتابع وردة.

ووفقا لمؤسسة "أكشن إيد فلسطين"، عبر تقرير أصدرته في ديسمبر الماضي، فإن عشرات الآلاف من النساء الحوامل يعانين من الجوع الشديد بسبب الأزمة الغذائية في غزة؛ مما يجعل من الصعب عليهن إرضاع أطفالهن.

وحذرت وكالات تابعة للأمم المتحدة، في نوفمبر الماضي، من أن النساء والأطفال والمواليد الجدد يتحملون عبء تصعيد الأعمال العدائية في غزة.

وقالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) وصندوق الأمم المتحدة للسكان ومنظمة الصحة العالمية، في بيان مشترك آنذاك، إن 420 طفلًا لم يتعد عمر بعضهم الأشهر يُقتلون أو يصابون يوميًا.

وتحت وطأة غارات إسرائيلية مكثفة وعشوائية، نزحت وردة من شمالي قطاع غزة إلى مركز للإيواء في إحدى مدارس مدينة غزة، لكن الجيش الإسرائيلي اقتحمها، مما إجبارها مع آخرين على النزوح باتجاه مخيم النصيرات في المحافظة الوسطى.

ويعاني النازحون في غزة أوضاعًا كارثية، بعد أن أجبرت الحرب نحو مليوني فلسطيني على النزوح من مناطق سكناهم إلى مراكز للإيواء وسط وجنوب القطاع، وهي مناطق تنعدم فيها المقوّمات الصحية.

 

أهل غزة لا يجدون حتى الأعلاف للأكل

يقول المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة إسماعيل الثوابتة، إن بعض العائلات تأكل نصف وجبة كل يومين، وسكان الشمال لا يجدون حتى أعلافًا للأكل، بسبب حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على القطاع منذ أشهر.

يأتي ذلك وسط تأجج مخاوف وتحذيرات عربية ودولية من تصاعد كبير في أرقام الضحايا وتفاقم أزمة المجاعة، حال التوغل في محافظة رفح الجنوبية المكتظة بالنازحين، وهو ما أعلنت إسرائيل استعدادها للإقدام عليه.

وقال الثوابتة، في تصريح صحفي: "بعض العائلات تحصل خلال 48 ساعة على نصف وجبة غذائية فقط، والمواطنون في شمال قطاع غزة لا يجدون حتى الأعلاف والحبوب".

وأضاف أن "الاحتلال (الإسرائيلي) يمنع وصول شاحنات المساعدات الإنسانية إلى محافظة شمال القطاع".

وأكد الثوابتة، أن "الوضع الإنساني في شمال قطاع غزة تجاوز المرحلة الكارثية".

وحمّل "الاحتلال مسؤولية حصار القطاع ومنع وصول المساعدات".

كما طالب الثوابتة، "بوقف اعتداءات الاحتلال على المدنيين وإنهاء الحرب، والضغط على إسرائيل لكسر الحصار على قطاع غزة".

 

عدد قليل من الوجبات

ومن جهته، قال برنامج الأغذية العالمي، إن "معظم سكان قطاع غزة يعيشون بدون منزل أو طاولة، ولديهم عدد قليل جدًا من الوجبات". مشيرا إلى أنه "يدعم المخابز لإنتاج الخبز مجددًا".

وفي هذا السياق، نشر صورة لمطعم في مدينة دير البلح، وسط قطاع غزة، يطهو آلاف القطع من الخبز يوميًا.