يقتنص الفلسطيني من أهل غزة كيس الطحين فيظن أنه اقتنص الحياة، أو أنه حيا من بعد موات. ويتحدث أحدهم إلى وسائل الإعلام فيقول "لقد اشتقت إلى الخبز الأبيض". وتحفر الأم الفلسطينية الأرض بسكين في يدها لتستخرج منها بضعة حبات من الجزر لتطعم أطفالها الذين لم يحصلوا على طعام من أسبوع كامل.

ويطلق الجيش النيران والقذائف على الفلسطينيين الذين يتجمعون لتسلم مساعدات بالقرب من الشارع 17 في حي الشيخ عجلين أو دوار الكويت جنوبي مدينة غزة، مما خلَّف قتلى وجرحى بين باحثين عن طعام لأطفالهم، بحسب شهود عيان.

وفي شارع الرشيد، تجمع آلاف الفلسطينيين للحصول على الطحين بعد نفاده من القطاع؛ مما دفعهم إلى تناول طعام الحيوانات المكون من الشعير والذرة الناشفة للتخفيف من جوعهم، في ظل كارثة إنسانية غير مسبوقة؛ جراء شح إمدادات الغذاء والماء والدواء الوقود بسبب قيود إسرائيلية، وفقا للأمم المتحدة.

ولم يبال هؤلاء الفلسطينيين بإطلاق الجيش الإسرائيلي، المتمركز في شارع البحر القريب، النار عليهم، بقدر ما يهم كل منهم العودة بكيس من الطحين، ففي المنزل أو مراكز الإيواء ينتظرهم أطفالهم الجوعى.

وعندما يطلق الجيش الإسرائيلي النار، يحاول الفلسطينيون حماية أنفسهم، إما بالاختباء خلف سواتر رملية أو الانبطاح أرضا، في مشاهد تختزل كارثية الأوضاع في قطاع غزة، حيث يعيش نحو 2.4 مليون فلسطيني، بينهم حوالي مليوني نازح حاليًا.

 

تطهير عرقي

وقال معتز عبد الجواد: "وصلنا إلى دوار الـ17 (منطقة الشيخ عجلين غربي مدينة غزة)، واقتربنا من الدبابات التي تطلق النار علينا من أجل الحصول على كيس الطحين".

وأكد أن "الوضع في شمال قطاع غزة مأساوي.. لا يوجد طعام، ونعتمد على طعام الحيوانات الذي بدأ ينفد"، وفقًا لـ"الأناضول".

"الشعب يناشد العرب والعالم أن ينظروا بعين برحمة، فالناس تموت جوعًا من أجل قليل من الطعام يقدموه لأطفالهم"، كما أردف عبد الجواد.

وشدد على أن "ما يحدث في قطاع غزة من قبل الاحتلال هو تطهير عرقي".

ودعا عبد الجواد العرب والمسلمين والأمم المتحدة إلى "توفير الطعام والشراب لأهالي قطاع غزة".

 

الموت جوعًا

"جئنا لنرمي أنفسنا للموت بسبب الظروف الصعبة".. هكذا تحدث معين سليم (34 عامًا) عن المهمة الخطرة للحصول على كيس طيحن.

سليم تابع: "نحاول جاهدين الحصول على كيس الطحين، الذي وصل سعره في قطاع غزة إلى 2500 شيكل (نحو 688 دولارًا) ونادر جدًا وجوده".

وتابع: "عندما تصل المساعدات إلى مدينة غزة، يتدخل الجيش ويفتح النار، وينتج عن ذلك سقوط شهداء وجرحى بين الناس.. إذا ما خطرنا بأنفسنا راح نموت من الجوع".

فيما قال فيصل الحسني (49 عامًا): "لم نصل إلى هذه الحالة الصعبة إلا بالقهر، محاصرينا لمدة خمسة أشهر دون مساعدات".

وزاد بأن "المساعدات التي تصل لا تغطي إلا نسبة بسيطة من احتياجات الناس، لا تزيد عن 20 في المئة".

"نحن شعب محاصر ومنكوب، القذائف تُطلق والدبابات تطلق النار، ولكن لو كان هناك طحين في غزة، فالناس لن يخاطروا بحياتهم ويخرجوا للتوجه نحو الخطر"، كما أضاف الحسني.

 

العتبة الحرجة

وبحسب نتائج فحوص لسوء التغذية أجرتها مؤخرًا منظمات شريكة في مجموعة التغذية (تابعة للأمم المتحدة)، توجد في غزة زيادة كبيرة في نسبة سوء التغذية الحاد العام بين الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 أشهر و59 شهرًا.

ووصل سوء التغذية الحاد العام إلى 16.2 بالمئة، وهي نسبة تتخطى العتبة الحرجة التي تحددها منظمة الصحة العالمية عند 15 بالمئة.

وفي 17 نوفمبر الماضي، أعلنت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) أن السكان في شمال قطاع غزة أصبحوا "على حافة المجاعة ولا ملاذ يأوون إليه" في ظل الحرب المستمرة.

ويضيف أن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الولايات المتحدة التي ترفض ممارسة أي ضغط، مشددًا على أن إسرائيل ستستمر في هذا الغي طالما اكتفى العالم بالبيانات، كما يشجعها عدم وجود ردود فعل عربية وإسلامية قوية.

 

مجتمع فاشي

قال الدكتور مصطفى البرغوثي الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية، إن إسرائيل تحاول أن تنفذ الإبادة الجماعية بـ3 وسائل، أولها القتل بالقصف والتدمير، حيث تجاوز عدد الشهداء 29 ألفًا، في حين تجاوز عدد المصابين 70 ألفًا، "يتوقع استشهاد أغلبهم في ظل الحرمان من العلاج".

وأضاف، خلال مشاركته في برنامج "غزة.. ماذا بعد" على قناة الجزيرة، أن الوسيلة الثانية هي ما يمارسه الاحتلال من سياسة التجويع الخانقة، فيما تتمثل الوسيلة الأخيرة في خلق ظروف بيئية سيئة تتعذر معها الحياة في القطاع.

ويرى البرغوثي أن إستراتيجية التجويع تجاوزت استهداف تهييج المدنيين في غزة ضد المقاومة باعتبارها مسؤولة عن الوضع، بعد يأسهم من تحقيق ذلك، إلى استهداف الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجعل غزة مكانا غير صالح للحياة، مما يدفع أهله للهجرة.

 

إستراتيجية عسكرية وسياسية

بدوره، يرى الدكتور مهند مصطفى، الأكاديمي والخبير في الشؤون الإسرائيلية، أن المجتمع الإسرائيلي، باستثناء شرائح محدودة، لا يلتفت إلى المعاناة التي يعيشها أهالي قطاع غزة، مؤكدًا أن التجويع ليس جزءا من تداعيات العملية البرية بغزة، وإنما إستراتيجية عسكرية وسياسية من أجل فصل الناس عن المقاومة وهو منطق استعماري قديم.

وأشار في هذا السياق إلى أن ما كشفه استطلاع الرأي الذي قام به مركز أبحاث إسرائيلي جاد من تأييد 68% من الإسرائيليين لعدم إدخال المساعدات إلى القطاع، يعكس أن المجتمع الإسرائيلي عنصري، ولا يرى للفلسطيني أي حق في الحياة كإنسان فضلًا عن الحقوق الأخرى.

ويؤكد الخبير في الشؤون الإسرائيلية أن الاحتلال يمكن أن يصل في سياسة التجويع إلى أبعد مدى ممكن، طالما لا يجد موقفًا مؤثرًا، والذي يتمثل في توافق عربي على إجراءات مضادة، خاصة الدول التي لديها علاقات مع إسرائيل، مشيرًا إلى أهمية اتخاذ موقف داعم للشعب الفلسطيني حتى ولو من منطلق إنساني.

وأعلنت وزارة الصحة في غزة، الخميس، ارتفاع حصيلة الضحايا إلى "29 ألفًا و410 شهداء"، و69 ألفًا و465 مصابًا منذ بدء الحرب التي تشنها إسرائيل على القطاع وتُحاكم على إثرها بتهمة "الإبادة الجماعية.

ومنذ 7 أكتوبر 2023، تشن إسرائيل حربًا مدمرة على قطاع غزة خلفت عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين معظمهم أطفال ونساء، فضلًا عن كارثة إنسانية غير مسبوقة ودمار هائل بالبنية التحتية، الأمر الذي أدى إلى مثول تل أبيب أمام محكمة العدل الدولية بتهمة "الإبادة الجماعية".