د. محمود محمد عمارة

الأستاذ بجامعة الأزهر (رحمه الله)

 

في الوقت الذي تتقطع فيه الأسباب الواصلة بين الأرحام.. كان ابن عم معاذة الأرملة يطرق بابها يوم العيد ليهدي إليها أضحية.

 أولًا - تجديدًا للصلة الجامعة.

 ثانيًا - حماية لها من طمع الطامعين في أنوثتها بعد غياب العائل.

 وفي الوقت الذي ترى مهمومة حزينة تفكر كيف تستثمر في الأضحية كل شعرة.. وكل بعرة.

 وفي الوقت الذي نسمع عن فتيات مسلمات مهتمات بالأجدى في صلاة العيد؛ أتكون في المسجد أو في الخلاء؛ ثم لا تلحظن من إيجابيات العيد ما يخفف آلام البشر.

 وقبل أن تبرز فكرة استغلال لحوم الأضاحي.. وإنشاء مصانع لاستثمارها.. كان هناك رجال من سكان الصحراء يحسنون تدبير هذه اللحوم.

 فلما غابوا.. بدت مسؤولية المرأة عن تحمل هذا العبء.

 ولقد كانت معاذة العنبرية هذه المؤمنة العاملة الأرملة التي ضمت إلى تجربتها حسن فهمها لحكمة الإسلام من وراء أحكامه.

 ولنستمع إليها وهي تحكي قصتها: قالت:

 أهدى إليها ابن عم لها أضحية فرُئيت مهمومة حزينة، فلما سُئلت عن ذلك قالت: أنا امرأة أرملة، وليس لي قيِّم، ولا عهد لي بتدبير لحم الأضاحي، وقد ذهب الذين كانوا يدبرونه ويقومون بحقه، وقد خفت أن يضيع بعض هذه الشاه.. ولست أعرف وضع جميع أجزائها في أماكنها، ولكن المرء يعجز لا محالة، ولست أخاف من تضييع القليل إلا أنه يجرُّ إلى تضييع الكثير.

 أما القرن: يُجعل كالخطاف، ويُسمّر في جذوع السقف فيُعلق عليه كل ما خيف عليه من الفأر والنمل والحيات.

 وأما المصران: فإنها الأوتار المندفة "والمندفة والمندف ما يندف به الصوف".

 وأما القِحف: قحف الرأس.. بكسر القاف، "أعلى الدماغ والجمع أقحاف مثل حمل وأحمال".

واللحيان: "تثنية اللحى وهو عظم الحنك" واللحاء ما على العود من القشرة.

وأما العظم: فسبيله أن يكسر بعد أن يعرق. ثم يطبخ فما ارتفع من الدسم كان للمصباح بدل المبيدات الحشرية اليوم، وحتى يظل الهواء سليمًا والجسم صحيحًا والتفكير سديدًا.

 ثم.. وللإدام.. وللمقلاه.. وغير ذلك. ثم تؤخذ هذه العظام "وقودًا" فيوقد بها، فلم ير الناس وقودًا أصفي لهيبًا منها.

 وإذا كانت كذلك فهي أسرع في القدر لقلة ما يخالطها من الدخان.

 وأما الإهاب: فالجلد نفسه جراب، وللصوف وجوه لا تدفع.

وأما الفرث والبعر فحطبٌ إذا جفَّ عجيب.

 ثم قالت: بقي علينا الانتفاع بالدم؛ وقد علمت أن الله عز وجل لم يحرم من الدم المسفوح إلا أكله وشربه.

 وإن له مواضع يجوز فيها ولا يمنع منها، وإن لم أقع على عدم ذلك حتى يوضع موضع الانتفاع به صار كية في قلبي، وقذى في عيني، وهمًا لا يزال يعاودني، ثم ذكرتُ أن عندي قدورًا شامية جددًا، وقد زعموا أن ليس شيء أدبغ ولا أزيد في قوتها من التلطيخ بالدم الحار الدسم، وقد استرحت الآن إذ وقع كل شيء في موضعه.

 ثم سألها الشيخ بعد ستة أشهر فقال لها كيف كان قديد تلك الشاة؟

قالت بأبي أنت لم يجئ وقت القديد بعد.

ولقد نجحت معاذة العنبرية فيما رسب فيه فتيان وفتيات لا نشك في إخلاصهم.

 لقد حضرتُ معركة بين شابين حول مصطلح: "مصر هبة النيل" ومدى مطابقته للواقع، وقلت للشابين معًا: تعلموا من تاريخكم، وليكن دوركم الحقيقي على ساحة التنمية وزيادة النتاج وجودته أيضًا.

 هذا هو ورد النيل يقتل الثروة السمكية، ثم يمتص نسبة كبيرة من الماء نحن أحوج ما نكون إليها، فلا تجعلوا قضيتكم الأولى كلمة قالها هيرودوت، ولا تكن صلتكم بالنيل إنه الطهور ماؤه الحل ميتته.

 ولكن حاولوا أن تتعاملوا مع الماء باستثماره، واستغلال ما فيه، ولا تستصعبوا المهمة فليس هناك مستحيل.

 وتعلموا من قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وفي عيد الأضحى بالذات لقد أمره الله تعالى أن يؤذن في الناس بالحج.

 ولما بدأ بنفسه فنادى، كان على الله تعالى أن يجيب، فجاء الناس من كل فج عميق. وصدق القائل:

 "وإذا كانت سنة النحر تذكرنا بتلك المعاني المقدسة، فإنها تذكرنا أيضًا بأن الدماء التي تراق في هذه السنة إنما كانت في الأصل فداء لدماء الإنسان، وفي هذا ما يشير إلى أن حياة الإنسان لا ينبغي الاعتداء عليها، وأن الدماء البشرية لا ينبغي أن تُراق إلا في مشروع، فمغزي الأضحية فضلًا عن معاني التسليم والطاعة والخضوع لله تتضمن الدعوة إلى حفظ الحياة الإنسانية وفدائها بكل مرتخص وغال، وبذلك تلتقى سنة الأضحية مع معاني التكرم والتشريف للإنسان في الإسلام..

"إن الذين يهدمون الحياة ويريقون الدماء استجابة للأهواء على اختلافها قد باءوا بالطرد من رحمة الله، وحق عليهم الخلود في نار الجحيم. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ يقول "هذا الإنسان بنيان الله ملعونٌ من هدم بنيانه" والهدم في هذا الحديث الشريف ينسحب معناه على الهدم المادي والمعنوي، أي أنه يقرر في إيجاز رائع كرامة الإنسان ووقايته من كل ما ينال من هذه الكرامة..

 "ألا ما أعظم الإسلام في نظرته إلى الإنسان وتقديره، وما أتعس هؤلاء الذين يمتهنون كرامة الإنسان ويسلبونه حق الحياة الحرة الكريمة: "أولئك الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا".