محمود النجار:


في تصريح لمستشار السيسي النفسي د. عكاشة سنة 2018، أفاد بما ملخّصُه أن أي حاكم يحكم ثماني سنوات يصاب بمتلازمة السلطة، بمعنى أنه يعتاد على السلطة ويصعب عليه التخلي عنها، وتصبح مرضا يصعب الخروج منه. كما أنه يشعر بأنه مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ الشعب، وتتضخم لديه ضلالات العظمة؛ فيسهب في الكلام ظانا أنه يقول حكما وفلسفة وإبداعا، وأن جهتين فقط لهما الحق في مساءلته عما يفعل هما: الله والتاريخ. ومن صفات هذا الحاكم أيضا أنه دموي ومتبلد العواطف، وعلى جاهزية دائمة للانتقام من الخصوم وتدميرهم، إضافة إلى الشعور بالنشوة في أثناء خطاباته. وحين صرح د. عكاشة بذلك لم يكن السيسي قد أتم ثماني سنوات في الحكم بعد..


متلازمة السلطة أو الغطرسة أو متلازمة هوبريس (Hubris syndrome) من المسائل التي تشغل العاملين في مجال علم النفس السياسي الذي يتناول مسألة الهوس بالسلطة، باعتباره مرضا خطيرا أصاب وما زال يصيب كثيرين في عالمنا العربي وغير العربي، ولا يتوقف هذا المرض على زعماء الدول، بل على كل مهووس بالموقع القيادي السياسي أو العسكري أو الإداري أو المالي صغر موقعه أو كبر.


ويكمن الخطر في هؤلاء المهووسين بالسلطة في اتخاذهم قرارات خطيرة أحيانا ومتهورة أحيانا أخرى، وهي في الغالب قرارات فردية، لا يستمع فيها المسؤول لرأي الآخرين، ولا يعد آراءهم ذات أهمية أو وجاهة حين تصطدم برؤيته التي غالبا ما تأتي بناء على تصورات نابعة من المصلحة الشخصية للمسؤول، فكل القرارات الصغيرة منها والكبيرة يجب أن يكون هو صانعها، وهو الشخص الوحيد الذي يدرك أبعادها ونتائج تصديرها، وعلى الجميع أن يصفق ويحتفل بهذه القرارات، وقد يتعرض الناقد لها للإيذاء في حال أبدى اعتراضا علنيا عليها..


وفي كثير من الأحيان تأتي قرارات المهووس بالسلطة ضد المصلحة العامة؛ لأنها في الغالب قرارات تأتي لتأكيد سلطته ولإظهار قدراته الخارقة، ولمغايرة رأي الآخرين؛ فهو وإن استمع لرأي مستشاريه الشكلانيين، إلا أنه في النهاية يحس بأن قراره يجب أن ينبع من ذاته المتضخمة، وفي حال اقتناعه برأي مستشاريه؛ فعليه أن يغير فيه قليلا، ويتذاكى عليه ليبدو قراره الشخصي.

ويمثل عبد الفتاح السيسي رئيسا النموذج الأدق والأكمل لهذه المواصفات التي ينتهجها مهووسو السلطة في حكم بلادهم؛ فهو في مقام غير مقام البشر العاديين، وهو الطبيب الذي يصف الدواء، والحكيم الذي يجد المخارج والحلول لكل المشاكل القائمة، والقائد العسكري الهمام، والاقتصادي المحنك، والحاكم الأوحد الذي يعرف ما معنى كلمة دولة، وهو إلى ذلك الأب الحنون الذي يرعى أبناءه ويحدب عليهم..


يتخيل عبد الفتاح السيسي أن العالم كله يراقب أداءه، وأن مخابرات الدول ومرافق السياسة العالمية تترقب أداءه لتتعلم منه وتفيد من خبراته.. ويتخيل أن الشعب يجب أن يكون ملك يمينه، وأن عليه أن يكون في طاعته مهما فعل، ومهما جوّع واعتقل وعربد على الناس.


ومن أغرب ما يفعل أنه دائم المديح لنفسه، ودائم الحلف بالله زورا وبهتانا، ودائم النقد لغيره، ولا يتوقف عن الكذب على الشعب وتمنيته بالخير العميم بين الفترة والأخرى، بينما تسير الأمور من سيئ إلى أسوأ.


لقد منّى السيسي الشعب مرات عدة بجمل صارت موضع تهكم من مثل: اصبروا علي سنتين.. اصبروا علي 6 شهور.. حتشوفوا مصر حتبقى فين.. إلخ. لكن الغريب في الأمر أن ينكر في أحد خطاباته الأخيرة -إبان مؤتمر المناخ- أنه وعد الشعب بشيء، ويقول متبجحا مستغفلا الشعب: أنا لم أعدكم بشيء، وهو بذلك إما مصاب بالزهايمر أو يدعي زورا وبهتانا. فهو يقول الشيء وعكسه، ويوقع نفسه في مطبات لا تليق برئيس بحال من الأحوال.


ومما يؤكد إحساسه أنه مبعوث العناية الإلهية تكراره لمطلع الآية القرآنية 79 من سورة الأنبياء "ففهمناها سليمان"، في أكثر من مناسبة، واضعا نفسه في مقام النبي سليمان عليه السلام (تعالى مقام النبوة عما يدعي ويفتري). وهو كذلك يدعي أنه يكلم الله وأن الله يلهمه ما يفعل، وتلك أيضا كارثة أخرى تضاف إلى كثير من تخيلاته الباعثة على السخرية. ولأنه مبعوث العناية الإلهية التي لم يدّعها قبله أحد من المسلمين باستثناء بعض مشايخ الصوفية المغالين؛ فعلى الجميع أن يؤدوا له فروض الطاعة، حتى وهو يبيع تيران وصنافير، وهو يتخلى عن مياه النيل، وهو يحفر قناة لرفع الروح المعنوية للشعب، وهو يطأطئ رأسه أمام ترامب، وهو يبيع مقدرات الشعب المصري وأرض مصر لدول الخليج، وهو يبني القصور الفارهة على حساب الفقراء والجياع، وهو يقتل خارج القانون ويعتقل ويعذب ويستولي على الشركات الخاصة ويعامل المصريين كالعبيد..!!


لكن ومع كل ذلك الغرور والعنجهية إلا أن المراقب لتصرفات السيسي وتصريحاته بأن الرجل وصل إلى مرحلة صعبة وعصية على الحل؛ فمع انطباق كل ما قاله د. عكاشة عليه بدقة متناهية، ظهر بمظهر الخائف المرتعد الحائر خائر القوى، المنهزم وفاقد البوصلة إبان 11/11؛ كذلك فهو يعترف بكل ثقة بأنه فشل في إدارة البلاد، ويعترف بكل أريحية بأنه فقد ثقة الممولين الخليجيين بسبب اقتناعهم بفشل الدولة المصرية، ويعترف بذات القدر بالخوف من القادم، وذلك في مداخلته مع يوسف الحسيني قبل أكثر من أسبوعين.


وجراء سياساته الفردية الجزافية، وفشله الذريع في قيادة البلد؛ فهو خائف ويترقب القادم من الأيام بكثير من القلق، لا سيما وهو يدرك جيدا أن الأمور تسير نحو الأسوأ في مجال الاقتصاد ومعيشة المواطن؛ إنه يدرك الآن أن الاقتصاد المصري قد انهار فعلا، وتفاقمت الأمور أكثر فأكثر بعد التعويم الثالث؛ حيث وصل السعر الرسمي للدولار نحو 24.55 جنيها في المتوسط، أما في السوق الموازي فقد بلغ بين 26 و27 جنيها، فقد أحس السيسي مؤخرا بما ستؤول له الأوضاع في البلاد جراء الانتكاسات الاقتصادية المتلاحقة، حيث أفادت بعض التقارير بأن وضع سريلانكا التي أعلنت إفلاسها قبل عدة شهور أفضل من وضع مصر الحالي. ولأن السيد الرئيس يتصرف بناء على الأحلام والتوقعات الخاطئة؛ فقد وجد نفسه وحيدا في مواجهة الأزمات المتراكمة، ولم يكن يتوقع أن تتوقف خزائن الخليج عن دعمه. فقد أدت السياسات العشوائية للسيسي إلى ما فيه مصر اليوم من ترد اقتصادي ودمار اجتماعي.


"إن مساحة الأخطاء والعيوب الكارثية للسيسي أكبر من أن تحصى، سواء في أدائه الشخصي وتصرفاته الغريبة أو خيانته لأمته ووطنه بعلاقاته الحميمة مع الاحتلال، أو بيعه لمقدرات البلاد وأرضها ونيلها وكرامتها أو قمعه واعتقاله للمعارضين ولو بالشبهة، وقتله للأبرياء خارج القانون، لكن ثمة نفر من البشر تنفر منهم الشياطين يغطون على أخطائه ومصائبه التي جلبها لمصر، ويفتحون النار على معارضين يتسمون بالوعي والوطنية والغيرة على البلاد، وهذا النوع من البشر أبشع من الحاكم نفسه. وهنا تحضرني مقولة للأديب الصيني الكبير مو يان: "من أقبح ما في الإنسانية البحث عن العيوب في أصحاب القلوب الطيبة الذين لا سلطة لهم ولا نفوذ، ثم إبراز محاسن فاقدي الأخلاق من ذوي السلطة والنفوذ".


نقلا عن: عربي21