لازلنا نعيش مع مذكرات العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، وقد تحدثنا سابقا عن ظروف نشأته وأنه تربى يتيما في بيت عمه الذي ألحقه بكتاب القرية، ثم توالت الأحداث، والتحق بالمعهد الديني، وتوفيت والدته بعد أشهر من انتظامه، كما تحدثنا عن اللقاء الأول بالإمام حسن البنا وكيف تأثر بجماعة الإخوان المسلمون وأصبح من أبنائها، وكيف كان الاعتقال الأول منحة ربانية.

 

الالتحاق بكلية أصول الدين

يكمل القرضاوي حديثه بعد التخرج من معهد طنطا، حيث يقول: "بعد حصولي على الشهادة الثانوية وتفوقي فيها، اقترح بعض الأصدقاء عليَّ أن أقدم إلى كلية "دار العلوم"، وهي تأخذ عادة المتفوقين من أبناء الأزهر، وإنها تعين المتفوقين معيدين فيها، والأزهر حتى الآن ليس فيه نظام المعيدين، ولكني في قرارة نفسي كنت مصممًا على ألا أتخلى عن الأزهر، وأن من حقه علينا أن نبقى فيه وأن نعمل على إصلاحه وتجديده؛ ولهذا لم أقبل التوجه إلى "دار العلوم".

 لهذا كانت نيتي متجهة إلى التقديم لكلية أصول الدين، وهو اتجاه قديم عندي، حتى إني كتبت على أحد كتبي وأنا في السنة الثانية الابتدائية -وهو كتاب القدوري في الفقه الحنفي- يوسف القرضاوي الطالب بالسنة النهائية بكلية أصول الدين؛ تفاؤلًا بالمستقبل.

 

شيوخ في "أصول الدين"

كشف الشيخ في مذكراته النقاب عن شيوخه وأستاذته في الكلية مبينا: "من شيوخي في الكلية: الشيخ محمد أمين أبو الروس، الذي درسني التفسير، والشيخان: محمد أحمدين، وعبد الحميد الشاذلي، درساني الحديث، والشيوخ: صالح شرف، والعيسوي، ومحمد يوسف الشيخ، والشافعي، والظواهري، درسوني التوحيد، والشيوخ: عبد الفتاح شحاته، ومحمود فياض، وأبو زيد شلبي، درسوني التاريخ، والشيخ أبو بكر ذكري درسني النظريات الأخلاقية.

والشيخ منصور رجب درسني علم الأخلاق، والدكتور محمد غلاب درسني الفلسفة الشرقية واليونانية، والدكتور عبد الحليم محمود درسني الفلسفة الإسلامية والحديثة، والشيخ الطيب النجار درسني أصول الفقه، والدكتور جمال الدين درسني علم النفس، والشيخ علي الغرابي درسني الفرق الإسلامية، ونسيت اسم من درسني المنطق من كتاب "القطب على الشمسية" لمدة سنتين، كما كان هناك من درسوني اللغة الإنجليزية لمدة أربع سنوات".

 

هؤلاء تعلم منهم في الإخوان

ولم تغفل مذكرات العلامة عن الأساتذة والشيوخ من جماعة الإخوان الذين استفاد الدكتور يوسف القرضاوي من علمهم، حيث يتابع الشيخ قائلا: "كما استفدت من شيوخي في الأزهر استفدت أيضًا من شيوخي في جماعة الإخوان، ومن شيوخي في الإخوان الشيخ محمد الغزالي، فقد كنا نزوره أنا والعسال في بيته في درب سعادة، قبل أن ينتقل إلى شارع الأزهر، ثم إلى الدقي.

ومنهم الشيخ سيد سابق، الذي كنا نزوره في بيته القديم في سوق السلاح، حارة زرع النوى، قبل أن ينتقل إلى "جاردن سيتي"، ومنهم الشيخ البهي الخولي الذي كنا نزوره في بيته بالمطرية، قبل أن ينتقل إلى شارع القصر العيني، وكلهم أخذت عنهم، واقتبست منهم، فجزى الله كل من علمنا حرفًا خيرًا".

 

 إعادة النشاط الإخواني

وتحدث الشيخ القرضاوي عن دوره إعادة النشاط الإخواني  كانت جماعة الإخوان محظورة أو محلولة من الناحية الرسمية، ولكن هذا لا يعني أكثر من فقد البطاقة الشخصية أو شهادة الميلاد الرسمية -كما قال الأستاذ البنا- أما وجود الإخوان على أرض الواقع فأمر لا شك فيه.

ولقد خرج الإخوان من معتقلاتهم أشد عزمًا، وأقوى إصرارًا على دعوتهم، واستمساكًا بعروتها الوثقى، ونشاطًا في سبيلها.

وكانت هذه الفترة من أخصب الفترات في تاريخ الدعوة، فلم يكن للدعوة دور ولا لافتات، ولا أية مظاهر رسمية، وإنما كان هناك عمل هادئ صامت، يقوم به أبناء الدعوة في كل مكان، وخصوصًا بين الطلاب، وكان العمل أشبه ببذر البذور الطيبة في أرض خصبة، بأيدٍ أمينة، وكان لا بد أن يؤتي أكله.

وكنا نكسب باستمرار شبابًا وجنودًا جددًا ينضمون إلى الدعوة مخلصين، لا يرجون إلا الله والدار الآخرة، وقد كان هذا أمرًا جليًّا بالنسبة لطلاب الجامعة والأزهر، وقد جمعت بيننا لقاءات دعوية للتفاهم وتنسيق العمل المشترك.

 

دعم مرشحي الإخوان في الانتخابات

وكان من أهم جولات النشاط العلني الذي قمت به في هذه الفترة: تأييد مرشحي الإخوان في الانتخابات، فقد رُشِّح عدد منهم في بعض الدوائر، وكان ذلك لغاية مهمة، وهي أن الانتخابات تتيح لهم -رسميا- الحديث عن الدعوة وأهدافها ومنجزاتها ومستقبلها، وإن لم يكن لديهم أمل في النجاح.

يقول: "كنا ننتقل من دائرة إلى أخرى لنشارك في المسيرات المؤيدة، أو في حملات الدعاية؛ بدافع من أنفسنا، ورغبة صادقة في مساندة إخواننا، الذين لا يملكون من وسائل الدعاية والتجنيد ما يملك خصومهم المرشحون..

ثم إن الإخوان طلبوا إليّ أن أسافر إلى أسيوط لأسهم في تأييد مرشح الدعوة المحامي فهمي أبو غدير، الذي رشح نفسه في دائرتين: دائرة الوسطى، ومنها (درنكه) بلدة حامد جودة النائب السعدي الكبير، ووكيل مجلس النواب السابق، وقال الأستاذ أبوغدير: إن قصدي ليس النجاح، ولكن إحياء الدعوة في الدائرتين، وكان معي في هذه الرحلة الأخ أحمد العسال.

وقد قمنا بجهد طيب -ولله الحمد- في زيارة قرى دائرة الوسطى، نحدث الناس عن الإسلام ودوره في علاج مشكلاتهم وبناء حياتهم على أسس صالحة، كما أن الأمة في حاجة إليه لتحريرها من الاحتلال البريطاني، وتحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني.

وكانت أيامًا حافلة تلك التي قضيناها في أسيوط، وتعرفت فيها على إخوة كرام: محمد الراوي، ومحمد الناجي، وعلي عبد المنعم عبد الحميد، وعيسى عبد العليم، وأحمد نصير، والدمرداش العقالي... وغيرهم من شباب الدعوة الناهض.

وبعد رجوعي من أسيوط كُلِّفت أن أسافر إلى "فاقوس" بالشرقية؛ لتأييد مرشحها فضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار، وبقيت هناك نحو أسبوع، أنتقل في أحياء فاقوس، وفي قرى الدائرة، لمساندة ابنها البار، وعالمها الجليل، وخطيبها المفوه، الذي دوى صوته في جنبات الأزهر، وفي أنحاء مصر، ووصل إلى فلسطين، فهز المنابر، وأيقظ المشاعر، وزلزل عروش الظالمين.

ثم ودعت الشيخ وعدت بعد ذلك إلى القاهرة لأواصل نشاطي الدراسي والدعوي وقد أبى الشيخ عبد المعز -وهو رجل اشتهر بالسخاء والجود- إلا أن يُحمّلني سلة من "المانجو" من حديقة دارهم، واستمتعت بها أنا وإخواني في السكن.

وقد جرت الانتخابات بعد أيام قليلة؛ ولم ينجح أي مرشح من الإخوان، وهو ما كان متوقعًا؛ فالانتخابات فن لم يتقنه الإخوان بعد، ويحتاج إلى تهيئة وإعداد طويل.

 

زيارة الشيخ أبي الحسن الندوي لمصر

وفي محطة جديدة من محطات مذكرات العلامة القرضاوي أثناء فترة الدراسة كان لقاؤه بالشيخ أبي الحسن الندوي، حيث قال: من الأحداث التي وقعت في تلك الحقبة، وكان لي بها صلة؛ زيارة الشيخ أبي الحسن الندوي لمصر في يناير سنة 1951م، وذلك حين بدأ الشيخ يتحرك من وطنه بالهند إلى العالم من حوله، وكانت زيارته لمصر الأولى والأخيرة، كنت وقتها طالبًا في كلية أصول الدين، مشغولًا بدعوة الإخوان المسلمين، مسؤولًا عن طلبة الإخوان في جامعة الأزهر مع أخي أحمد العسال وعدد من الإخوة الكرام،  وكنت قد قرأت كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" الذي نشرته "لجنة التأليف والترجمة والنشر" التي يرأسها الأستاذ الكبير أحمد أمين رحمه الله، وقد أعجبت بالكتاب، ودللت عليه بعض الأصدقاء ليقرؤوه، وإن كنت لا أعرف عن صاحبه شيئًا إلا أنه عالم هندي مسلم، وقد كتب الأستاذ أحمد أمين مقدمة للكتاب، ولكنه لم يوفِّ صاحبه حقه كما ينبغي، ولكن الكتاب نظرة جديدة إلى التاريخ الإسلامي، وإلى التاريخ العالمي من منظور إسلامي، وهو منظور عالم مؤرخ مصلح داعية، يعرف التاريخ جيدًا، ويعرف كيف يستخدمه لهدفه ورسالته.

وأضاف: اتصل بي بعض الإخوة من الطلاب الهنود الذين يدرسون في مصر، وقالوا لي: هل تعرف الأستاذ أبا الحسن الندوي؟ قلت لهم: أليس هو صاحب كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" قالوا: بلى، قلت: وما شأنه؟ قالوا: سيصل إلى القاهرة يوم كذا. قلت: أرجوكم أن توصلوني إليه عند حضوره. وما هي إلا أيام حتى حضر الشيخ، ومعه اثنان من إخوانه ورفقائه الندويين، أحدهما: الشيخ معين الندوي، والثاني نسيت اسمه، كان الشيخ ومن معه يسكنون في شقة متواضعة في زقاق من أزقة شارع الموسكي بحي الأزهر، فالشيخ لا يقدر على سكنى الفنادق، ولا يحبها إن قدر عليها، وفي اجتماعات مجلس رابطة العالم الإسلامي بالمملكة العربية السعودية يَدَع الفنادق التي ينزل فيها الضيوف، وهي من فنادق الدرجة الأولى، وينزل عند بعض إخوانه، كما أنه يرفض النزول ضيفًا على بعض الكبراء من الأغنياء والموسرين؛ لعل ذلك للشبهة في أموالهم، أو لئلا يكون أسيرًا لإحسانهم.

ذهبت لزيارة الشيخ في مسكنه المتواضع أنا وأخي وصديقي محمد الدمرداش مراد رحمه الله، رفيقي في الدراسة، ورفيقي في الدعوة، ورفيقي في المحنة، ورفيقي في السكن، ودعوناه إلى بيتنا في شبرا؛ ليلتقي ببعض إخواننا من شباب الأزهر الملتزمين بالدعوة في صورة ما يسميه الإخوان "كتيبة"، وهو تعبير عن ليلة جماعية تُقضى في العلم والعبادة والرياضة، وقليل من النوم.

وكان الشيخ حريصًا على أن يستمع منا كما نستمع إليه، فكان يسأل عن حسن البنا وكلامه وطريقته، ومواقفه وتصرفاته في الأمور المختلفة، كبيرة كانت أو صغيرة؛ وهو ما كوّن معه فكرة عن الشيخ البنا، وأنه كان "إمامًا ربانيًّا" بحق، ولم يكن مجرد زعيم يطالب بحكم إسلامي، بل كان قبل كل شيء "مربيًا" يريد أن ينشئ للإسلام "جيلًا جديدًا" يُحسن الفهم له، والإيمان به، والالتزام بتعاليمه، والدعوة إليه، والجهاد في سبيله.

التقى الشيخ في القاهرة بكثير من العلماء والدعاة والمفكرين، وسجل عنهم ملاحظاته الدقيقة في كتابه الذي أصدره بعد رجوعه "مذكرات سائح في الشرق العربي"، كما التقى بالأديب الكبير الناقد الشهيد سيد قطب، وأُعجب به الشهيد، وكتب مقدمة أخرى لكتابه "ماذا خسر العالم...؟" أنصف فيها الكتاب وصاحبه، وقدّره حق قدره.

كانت زيارة الشيخ لمصر هي بداية لقائي به ومعرفتي به، ثم زادتها الأيام قوة على قوة (انظر كتابنا: الشيخ أبي الحسن الندوي كما عرفته، ص 16-21 دار القلم).

 

اختيار الهضيبي مرشدًا عامًا

وقد حل اختيار الأستاذ الهضيبي مرشدًا عامًا عقدة اختيار المرشد من رجال الصف الأول البارزين: صالح عشماوي وكيل الإخوان، وعبد الرحمن البنا عضو مكتب الإرشاد وشقيق المرشد الأول، وعبد الحكيم عابدين السكرتير العام للجماعة وزوج أخت الأستاذ، والشيخ أحمد الباقوري أحد قدامى الإخوان، وغيرهم من المتطلعين إلى منصب المرشد العام، وكل يزعم -أو يزعم له- أنه أحق به من غيره. فكان اختيار رجل من خارج المجموعة كلها حلًا للإشكال.

وكان الإخوان قد اختاروا مقرًا مؤقتًا في حي "الظاهر" بالقاهرة، يلتقون فيه حتى يكسبوا قضيتهم، وتعود إليهم ممتلكاتهم، ومنها المركز العام بالحلمية الجديدة.

 

العمل بالخطابة لتوفير النفقات 

يقول القرضاوي: "كانت نفقات الحياة بالقاهرة كثيرة، المسكن والمعيشة والتنقل والملبس والكتب... وغيرها، وليس لي مورد يغطي هذه التكاليف؟ أخي وزميلي محمد الدمرداش حل هذه المشكلة بالتقدم إلى وزارة التربية والتعليم ليُعيَّن بالثانوية مدرسًا؛ وقد كان، وعُيّن بالصعيد، ولكن مثل هذا العمل لا يلائمني بالمرة، ولهذا فكرت في أن أعمل خطيبًا بأحد المساجد الأهلية، وآخذ مكافأة تكفيني، وقد دلني بعض الإخوة على مسجد يُنشأ في المحلة الكبرى في شارع البحر، وهو أكبر الشوارع في المحلة.

وكان الناس يفدون إليه من طنطا، ومن سمنود، ومن طلخا والمنصورة، وبات مدرسة متميزة يقصدها الكثيرون للاستفادة منها. وكنت كثيرًا ما أجعل الخطب سلسلة متماسكة الحلقات، بعضها في العقائد، وبعضها في العبادات، وبعضها في أخلاق المؤمن، وبعضها في مشكلات الحياة والمجتمع، وبعضها في قضايا أمة الإسلام.

وقد اشتهر المسجد باسم "مسجد الشيخ يوسف" وقلت للإخوة: أنا حريص على أن يظل اسمه "مسجد آل طه" تشجيعًا لهم، وتنويهًا بعملهم الصالح، فقد قرروا لي مرتبا "عشرة جنيهات كل شهر"؛ حلّوا بها مشكلتي الاقتصادية، جزاهم الله خيرًا، كما أنهم لم يضيقوا علي في حضور ولا غياب؛ فلي أن أباشر أنشطتي كما أشاء، وحسبهم السمعة الكبيرة التي جاءتهم من وراء المسجد".

 

الدعوة تشق طريقها في المحلة

بعد أن أصبح مسجد "آل طه" مقرا للإخوان بدأ العمل الدعوي الفعلي في شهر رمضان حيث كان شهر النشاط المضاعَف؛ درس بعد صلاة العصر، وصلاة التراويح بجزء من القرآن، ودرس في الترويحة، وفي بعض الليالي نذهب إلى قرية من قرى مركز المحلة، أو سمنود وخصوصًا ليالي الاحتفال بغزوة بدر، وفتح مكة، وليلة القدر.

كان مسجد آل طه مصدر إشعاع وإحياء، وكانت سنوات حافلة بالنشاط والعطاء، وكان من بواعث إنعاش الإخوان ونموّهم في منطقة المحلة وما حولها وظهور عدد من الدعاة الشباب، أمثال: مصباح عبده، والسيد النفاض، ومحمد حوطر، وعبد الستار نوير، وعبد الوهاب الشاعر... وغيرهم، ممن أصبحوا بعد ذلك نجومًا زاهرة في سماء الدعوة.

 

الجهاد ضد الاحتلال

وتحدث الدكتور القرضاوي عن دوره في معارك القناة مع الاحتلال البريطاني، حيث قال: في سنة 1951م؛ ألغت حكومة الوفد معاهدة سنة 1936م، وقال مصطفى النحاس باشا رئيس الحكومة كلمته الشهيرة أمام البرلمان: "من أجل مصر وقَّعت معاهدة سنة 1936م، ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها".

وقد أقمنا نحن طلاب الأزهر معسكرًا لشباب الأزهر بجوار الجامع الأزهر هناك، وفي جوار قاعة الإمام محمد عبده وكلية الشريعة وقد استحوذ المعسكر على نشاطنا في تلك الآونة، نتدرب فيه على استخدام ما تيسر من الأسلحة، كما نعنى بالتربية الإيمانية، فهي نبع القوة المعنوية؛ ولهذا كان المعسكر يشتمل -مع التدريب العسكري والرياضي- على دروس توجيهية تنمي معاني الإيمان والرغبة في الجهاد، وحياة الخشونة والجندية، القائمة على الطاعة واحترام النظام.

وقد هيأ المعسكر عددًا من الشباب الذي أخذ نصيبًا كافيًا من التدريب ليسافر إلى الشرقية قريبًا من القناة؛ ليستكمل تدريبه، ويستعد لمهمته في الجهاد، وفق أوامر القادة في الميدان، ولقد أردنا أن تكون هذه مناسبة طيبة لإبراز مكانة الأزهر ودوره في هذه المرحلة الحساسة من حياة مصر.

 

اتحاد طلاب كلية أصول الدين

ويضيف: اجتهدنا -نحن طلاب كلية أصول الدين- وأنا في السنة الثانية: أن ننشئ اتحادًا لطلاب الكلية، رأسه الأخ الشيخ مناع القطان في سنته الأولى بانتخاب من الطلاب، فلما تخرج الشيخ مناع اختارني الطلبة لرئاسته.

وكانت الفكرة: أن ننشئ في كل كلية اتحادًا لطلابها، وكذلك في المعاهد الدينية، ثم ننشئ "اتحادًا عامًا" لجميع طلاب الأزهر يتحدث باسمهم، ويعبر عن أمانيهم، ولكن الظروف لم تساعدنا، ولا سيما بعد أن قامت ثورة يوليو.

 

اضطراب الأوضاع السياسية بمصر

انتهت هذه الفورة من فورات المقاومة للإنجليز، ولم تحقق هدفها النهائي، وإن أقَضَّت مضاجع الإنجليز، وأفهمتهم أن في مصر شعبًا يمكن أن يصنع العجائب إذا تهيأ له المجال وأتيحت له الفرصة.

وقد بدأ الجو السياسي يتوتر في البلاد، وبدأت روائح الفساد الملكي تفوح وتزكم الأنوف، تُنفق الأموال في بذخ وسرف على رحلات الملك ومتعه في أوربا وغيرها، في حين لا تجد بعض المؤسسات ما يقيم أودها، وينفق على الضروريات من مطالبها، وهذا ما جعل شيخ الأزهر العلامة الجليل الشيخ عبد المجيد سليم يقول لممثلي الحكومة حين رفضوا بعض ما يطلبه الأزهر لموازنته، كلمته الشهيرة التي كان لها دوي هائل: "تقتير هنا، وإسراف هناك!".

 

حريق القاهرة

وأهم حدث وقع في هذه الفترة هو حريق القاهرة، الذي قضى على عدد من المباني والفنادق الكبرى في يناير 1952م، ولم نعرف في ذلك الوقت من الذي دبّر هذا الحدث الخطير؟ وذُكر بعد ذلك أن هذا كان من تدبير جمال عبد الناصر؛ لتمهيد المناخ للقيام بانقلابه المنشود.

أقيلت وزارة الوفد بعد حريق القاهرة، وشُكلّت وزارات عدة بين حريق القاهرة وقيام ثورة يونيو.

 

قيام ثورة يوليو

وكان كل شيء يبشر أن تغييرًا لا بد أن يقع؛ فكان التغيير هو قيام "ثورة 23 يوليو 1952م" التي سُميت أول الأمر "حركة الجيش المباركة"، ثم أطلق عليها "الانقلاب"، ثم استقرت على اسم "الثورة".

لقد استبشر الشعب بانقلاب هؤلاء الضباط الذين قالوا عنهم "حَمَلَة المصاحف"، كما قالوا عنهم: إنهم من تلاميذ الشيخ محمد الأودن، كما قيل: إن منهم عددًا من الإخوان.

وقد طُلب منا نحن الإخوان أن نحرس المنشآت الأجنبية من احتمال تحرك أي أيد مخربة، تحاول أن تصطاد في الماء العكر، والوضع حساس لا يحتمل وقوع أي حادث يكدر صفو الأمن، ويظهر وجود معارضة للانقلاب.

كان رجال الجيش يعتبرون الإخوان هم سندهم الشعبي، فلا غرو أن اعتمدوا عليهم في حراسة المنشآت ومراقبة أي تحرك مريب، ولكن من الأيام الأولى بدأ لون من الحساسية يظهر عند رجال الانقلاب؛ حتى صدر بيان يعلن أن حركة الجيش حرة مستقلة عن الجماعات والأحزاب، وليس لأي منها سلطان عليها، وكان البيان يعني الإخوان خاصة.

 

داعية في بلاد الشام

وعن تفاصيل رحلته الأولى إلى بلاد الشام قال الدكتور يوسف القرضاوي: في أوائل شهر أغسطس سنة 1952م، أي بعد حوالي مضي أسبوعين على قيام ثورة 23 يوليو؛ جاءني أمر من الأستاذ الهضيبي المرشد العام أن أتهيأ لرحلة إلى بلاد الشام: لبنان وسوريا والأردن وعمان وفلسطين، أنا والأخ الفاضل الأستاذ محمد علي سليم من إخوان الشرقية؛ توثيقًا للصلة بالإخوة هناك، وتعميقًا للتربية عندهم.

وكانت هذه أول رحلة لي خارج مصر، وقد رحبت بها كل الترحيب، فالسفر نصف العلم، وفي أمثالنا قالوا: الذي يعيش يرى كثيرًا، قيل: لكن الذي يسافر يرى أكثر، و كانت الثورة في أيامها الأولى، ولم يكن يُسمح لأحد بالسفر إلا بتصريح من رجال الثورة، ولا بد أن يكون التصريح مسببًا، ولكن كانت العلاقة حسنة بين رجال الثورة والإخوان؛ فاستطاع الأستاذ منير دلَّة عضو مكتب الإرشاد أن يستخرج لي تصريحًا بالسفر، مندوبًا لشركة أدوات كهربائية يملكها أحد الإخوان.

وصلنا إلى بيروت، وهي مدينة هادئة جميلة، ومعظم شوارعها لا يتسم بالسعة، ولم يكن فيها في ذلك الوقت أي ازدحام في الشوارع أو في المواصلات، بل الحياة رحبة كنسيم البحر الذي يهب عليها، ولم يكن للإخوان وجود رسمي بها، ولكن كانت هناك جماعة "عباد الرحمن" التي أسسها الداعية والمربي الفاضل الأستاذ محمد عمر الداعوق، فتعرفنا على من لقيناه منهم، ولا أذكرهم الآن، ولم يكن الأستاذ الداعوق حاضرًا ببيروت.

بقينا في بيروت نحو ثلاثة أيام، ثم عزمنا متوكلين على الله أن نتوجه إلى دمشق عن طريق البر طبعًا، وكان الأخ محمد سليم قد اقترح علي أن أغير زيي الأزهري؛ لأنه يلفت النظر في سوريا، في حين نريد أن نقضي أيامنا في ربوعها بلا ضجيج ولا إعلان، ولهذا اشتريت قميصًا وبنطلونًا، وخلعت الكاكولة والعمامة، ولبستهما لأول مرة، وكان هو الأليق بالحال في سوريا، فقد دخلت سوريا عصر الانقلابات العسكرية من حسني الزعيم إلى الحناوي إلى أديب الشيشكلي، الذي يحكم سوريا حاليًا، وقد كانت قبضة الحكم العسكري قوية، ورجال المكتب الثاني يسيطرون على أزِمَّة الأمور.

بل اقترح علي الإخوة المسؤولون في دمشق، أن أختار اسمًا آخر أتعامل به مع الإخوان؛ فاخترت اسم "عبد الله المصري" حتى لا يكون فيه كذب، فأنا عبد الله ومصري،  ورتب لي الأخ علي الحسن لقاءات مع عدد من الأسر، ألتقي بهم في سرّية وتكتم حتى لا نُكشف أمام جهات الأمن المفتحة الأعين، كما هيئ لنا معسكر في بعض القرى الجبلية القريبة من دمشق، كنت أقوم فيه بالتربية الإيمانية والفكرية، ويقوم بالتدريب الأخ عبد العزيز علي الذي لحق بنا هناك.

وفي ليلة من الليالي كنت في بيت أحد الإخوان الدمشقيين، ألقي عليهم درسًا، مع حرصي على خفض صوتي، إلا أن طبيعتي غلبتني، وارتفع صوتي دون أن أشعر، وهو صوت مصري اللهجة؛ وسرعان ما سمع الإخوة طَرْقًا على الباب، فقالوا: المكتب الثاني؛ وهنا أدخلوني إلى مكان الحريم في الداخل، وفُتح الباب، وإذا هو أحد رجال الأمن، اقتحم عليهم الباب، ودخل الحجرة التي فيها الإخوان، فقال: هل عندكم ضيف؟ فقالوا: ليس عندنا أحد، ولكنا نجلس لتلاوة القرآن، ويحدثنا أحدنا في تفسير بعض الآيات، ولم يجترئ الرجل أن يفتش حجرات الحريم، ومرت الليلة بسلام.

ورأى الإخوان أن الجو في دمشق غير مساعد، وأن أعين الأجهزة الأمنية متيقظة؛ ولذا ينبغي أن نشد الرحال إلى "حمص"، فهي أخف وأهدأ، وليس فيها من ترصد الأجهزة ما في دمشق؛ وفعلًا سافرت أنا والأخ محمد سليم إلى حمص، وهي مسقط رأس الداعية الكبير الشيخ الدكتور مصطفى السباعي، المراقب العام للإخوان في سوريا، والذي اضطره الحكم العسكري أن يغادر سوريا إلى لبنان، فلا يمكن لمثله المقام تحت وطأة هذا الحكم؛ إلا أن يكون داخل السجن؛ ولذا لم أسعد بلقاء الشيخ الجليل أثناء وجودي بسوريا، ولم يكن هناك إمكان للعمل العلني، فلم يبق إلا عمل الأسر السري؛ وهكذا تضطر الأنظمة الدكتاتورية الإخوان ـ وغيرهم ـ إلى العمل تحت الأرض، بدل العمل تحت سمع القانون وبصره.

ومن حمص انتقلت إلى مدينة "حماة" لألتقي بالشيخ عبد الله الحلاق المسؤول عن الإخوان بها، والتقيت بعدد من الشباب بها في عدة جلسات، بقينا بها ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع ودّعتها عائدًا إلى دمشق، لأولّي وجهي شطر عمَّان، استكمالًا للرحلة المقررة.

وخرجت من الحدود السورية، لأصل إلى الحدود الأردنية، وهناك فاجأتني مشكلة أخرى جديدة لم أحسب لها حسابًا؛ فقد نظر المسؤول في جواز سفري، ثم وجه الخطاب إليّ، وكنت قد خلعت القميص والبنطلون، ولبست العمامة والكاكولة، فقال لي: يا شيخ يوسف، جوازك ليس فيه تأشيرة دخول.

قلت: نعم، ليس لكم سفارة في دمشق، (كانت العلاقة مقطوعة بين البلدين).

قال: كان عليك أن تحصل على التأشيرة من القاهرة قبل أن تغادرها.

قلت: ربما لم يكن عندي نية لزيارة الأردن في أول الأمر، ثم وجدت نفسي على مقربة من القدس، وأريد أن أصلي في المسجد الأقصى الذي تُشدّ إليه الرحال، هل تمنعني من ذلك؟

قال: يا أستاذ، أنت رجل جامعي، ورجل مثقف، وتعلم أنه لا يجوز لأحد دخول بلد أجنبي إلا بتأشيرة.

قلت له: إن الثقافة التي يعلمونها لنا في الأزهر، لا تعتبر الأردن بالنسبة لي بلدًا أجنبيًا، إنهم يعلموننا أن المسلمين أمة واحدة، وأن بلاد المسلمين وطن واحد اسمه "دار الإسلام"، وأن ابن بطوطة خرج من طنجة من المغرب وجال في البلاد الإسلامية شرقًا وغربًا، ولم يوقفه أحد ليسأله: أمعك تأشيرة أم لا؟..

وضحك الرجل، واتصل بأحد كبار المسؤولين في الداخلية، أظنه وكيل الوزارة، وقال له: عندي طالب مصري أزهري لا يحمل معه تأشيرة دخول، وهو يجادلنا، ويقول: كيف تمنعوني من الصلاة في الأقصى؟ ويبدو أن هذا المسؤول كان رجلًا سمحًا، فقال له: أعطه تأشيرة.

 

امتحان شهادة العالِمية

كانت شهادة العالِمية لها شأن ووزن كبير، وكان يوقعها الملك بنفسه في عهد الملكية، أما في عهد الثورة فأصبح الذي يوقِّعها شيخ الأزهر.

ولكني في الشهادة العالمية كنت حريصًا كل الحرص على أن أكون الأول، والمسلم ينشد الأحسن والأمثل دائما.

وكان في الكلية عشر لجان قد ألفت لامتحان "التعيين، والقرآن"، وكنت مستعدًّا للامتحان أمام أيّ واحدة منها، إلا واحدة؛ خوَّفني زملائي الطلبة من رئيسها، وهو أستاذنا الشيخ صالح شرف، وجاء حظي بها لذلك قررت أن أذهب لعميد الكلية، الذي رفض في بادئ الأمر ثم تراجع بعدما اقتنع بمطلبي.