في أقل من ستة أسابيع استقالت صاحبة أقصر مدة حكم في تاريخ بريطانيا، رئيسة الوزراء ليز تراس، بعد أن دعا الحزب الذي تنتمي إليه إلى سرعة التخلص منها؛ بعد أن تراجعت شعبية الحزب الى مستويات غير مسبوقة في تاريخ بريطانيا.

 

أحداث متلاحقة عجلت الإطاحة بها

بعد أيام من تولي تراس المنصب، توفيت الملكة إليزابيث الثانية بعد أكثر من 70 عامًا من جلوسها على العرش، وبدأت فترة الحداد الوطني، ثم التنصيب الرسمي للملك تشارلز الثالث، ومراسم الجنازة الرسمية الضخمة.

بمجرد انتهاء الحداد، أعلن وزير المالية كوارتنغ سلسلة من السياسات المالية، بما في ذلك تخفيضات ضريبية تعود بالنفع على الأثرياء، ما أثار الغضب المحلي، ودفع الجنيه الإسترليني إلى الانخفاض إلى مستويات قياسية وأثار البلبلة في الأسواق المالية.

واجهت تراس أحداثًا عاصفة في حكومتها إذ رحل ثلاثة وزراء تباعًا في أقل من شهر، كانت آخرهم سويفلا برايفرمان، وزيرة الداخلية. سويفلا قالت إن استقالتها نتيجة مخاوف جدّية من التزام الحكومة بالوعود التي قدمتها للناخبين. قبلها بخمسة أيام كانت استقالة، أو إقالة، وزير المالية كواسي كوراتنج بسبب قرار خفض الضرائب والموازنة المصغرة. وقبل وزير المالية بأيام قلائل كانت إقالة وزير السياسة التجارية كونور بيرنر، والتبرير الرسمي كان ارتكابه سلوكًا جسيمًا غير لائق.

وقالت تراس أمام مقر رئاسة الحكومة في لندن "في ظل الوضع الحالي لا يمكنني إتمام المهمة التي انتخبني حزب المحافظين للقيام بها". وأضافت "لذلك تحدثت إلى جلالة الملك (تشارلز الثالث) لإبلاغه باستقالتي من رئاسة حزب المحافظين"، موضحة أن عملية اختيار النواب لخلف لها "ستستكمل خلال الأسبوع القادم".

وكانت تراس اعترفت الخميس بأنها واجهت "يوما صعبا" الأربعاء، لكنّها شددت على وجوب أن تركّز الحكومة جهودها على أولوياتها. وقال المتحدث باسمها إنها تريد من الحكومة التركيز بنسبة أكبر على "إنجاز الأولويات" و"بنسبة أقل على السياسة"، وفقًا لـ"دويتشه فيله".

الخطة التي اعتذرت عنها تراس، هي الخطة التي أطاحت بها، خطة الموازنة المصغرة. في نهاية سبتمبر 2022 قدّم كواسي، وزير المالية آنذاك، تلك الخطة. تدور الموازنة حول خفض الضرائب بشكل كبير، يرافق ذلك الخفض دعم قوي وكبير لفواتير الطاقة. الخفض الكبير لن يكون الأقل دخلًا أو الأكثر احتياجًا فقط، بل على الأعلى رصيدًا بنسبة أكبر.

تراس كانت ترى أن خفض الضرائب على كبار رجال الأعمال، بصفتهم موّلدي المال، سيؤدي إلى تنشيط السوق وجذب الاستثمارات، ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى تحسن أحوال الجميع، عبر تدفق الرفاهية والمال من قمة الهرم إلى قاعدته.

رد فعل السوق كان عنيفًا على تلك الموازنة. فالجنيه الإسترليني تراجع إلى أدنى مستوياته منذ عقود، فبات الهلع يسيطر على السوق من تراجع الحسابات العامة. الأمر الوحيد الذي زاد في الشهر المنصرم معدلات الاقتراض طويل الأجل. فالاقتراض الحكومي السبيل الوحيد لتعويض نقص الموارد الذي ستعاني منه الدولة جراء خفض الضرائب على عمالقة رؤوس الأموال، وفقًا لموقع "إضاءات".

تدخل بنك إنجلترا للسيطرة على الفوضى في السوق، محاولًا ألا تكبر كرة الثلج أكثر حتى تستطيع بريطانيا السيطرة عليها بدلًا من التحطم جراء أضرارها، وفقًا لـ"فوربس".

كما زادت معدلات السخرية من تراس بصورة أكبر من أي رئيس وزراء سابق. السخرية عنت أن تراس لم تعد مقنعة للعامة، ولا لصُنّاع السياسات. السخرية أتت من أن تراس تريد تجربة شيء أثبتت التجارب المختلفة عدم نجاحه. وهي نظرية تنمية الاقتصاد من جهة العرض، supply side، أو ما يُعرف التنمية الاقتصادية التدريجية المنطلقة من أعلى، المعروفة بمصطلح Down Economics Trickle.

 

4 صدمات تسبب فيها حزب المحافظين

استقالة تراس من رئاسة الحكومة كشفت عدة حقائق كبيرة للمجتمع البريطاني، وإن شئت فقل إنها عدة صدمات قوية وحاسمة.

أول هذه الصدمات أن بريطانيا ليست في معزل عن سياسات أوروبا الكبرى، ولن يكون لها قواعدها الخاصة. فوعد السيادة الذي قدمه حزب المحافظين للبريطانيين منذ 6 سنوات، وكان يعني عدم الدوران في فلك الاتحاد الأوروبي، وامتلاك آليات خاصة لاتخاذ خطوات وسن قوانين بريطانية الصُنع، أثبتت الأزمة الحالية أنه غير منطقي وصعب التحقيق.

ثاني هذه الصدمات، أن بريطانيا لم تستطع تجنّب أزمات أوروبا على الرغم من خروجها من الاتحاد الأوروبي، بل جعلها تعاني أضعاف باقي الدول الأوروبية؛ لأنها تواجه أزماتها منفردة، دون أي دعم نقدي أو سياسي من الاتحاد.

كما تسببت تراس في حدوث أكبر انقسام داخل حزب المحافظين، في ثالث هذه الصدمات؛ فالانقسام الأولى كان بين مؤيدي سوناك ومؤيديها، لكن في الأيام الماضية أنشأت تراس انقسامًا داخل معسكرها كذلك. ولم تستطع السيدة أن تخلق مناطق مشتركة للمؤيدين والمعارضين. ولم تحاول التوفيق بين التيارات المتصارعة داخل الحزب.

وكان تساؤل زعيم المعارضة العمالية كير ستارمر "ما فائدة رئيسة وزراء لا تصمد وعودها أسبوعًا؟ هو الصدمة الرابعة للبريطانيين، معددًا كل الاجراءات التي اضطرت تراس للتراجع عنها بضغط من الأسواق ومعسكرها. ولاحقًا سادت الفوضى في البرلمان بعدما طرحت المعارضة مناقشة قرار مثير للجدل اتّخذته تراس بشأن استئناف التصديع، أي استخراج الغاز الصخري.

 

تراس باتت محطمة وسلطتها مهشمة

وكانت عناوين الصحف الصادرة صباح الخميس أجمعت على وصف الأوضاع بأنها "فوضى"، غداة جلسة كارثية في وستمنستر تحوّلت إلى "سوق مزايدات". واعتبرت صحيفة "ذا صن" أن ليز تراس باتت "محطمة"، و"سلطتها مهشمة بعد يوم سادته الفوضى العارمة"، مشيرة إلى "حكومة بصدد الانهيار أمام أعيننا".

من جهتها اعتبرت صحيفة "ذا تايمز" اليمينية أن "رئيسة الوزراء تتمسك بالسلطة". ونقلت عن مؤيد لتراس في الحكومة قوله "القرار نهائي". وقال عضو حزب المحافظين إد فايزي إن "السبيل الوحيد للخروج من هذه الفوضى هو بتنحي ليز تراس وتعيين النواب المحافظين رئيسًا جديدًا للوزراء".