وائل قنديل:


اعتاد يونيو/حزيران أن يضربني شخصيًا في أغلى من أحب، وأعز ما أمتلك، أخذ مني مؤخرًا شقيقتي، حديقة الأمومة الوارفة بعد أمي رحمها الله، وفيه رحل أبي، ثم رحل صهري والد زوجتي، وقبله زوج أختي الكبرى، صديقي ومعلمي وأستاذي وشاعري الأحب محمد عفيفي مطر.. وفي السنوات الأحدث، طعنني يونيو باستشهاد الرئيس محمد مرسي، وفيه أيضًا رحل سفير الوطنية والإنسانية والكرامة الدبلوماسي المحترم إبراهيم يسري.


لا يأخذ مني يونيو الأحباب فقط، بل يسرق منا أجمل ما في أعمارنا من أحداث، ففيه كان مقتل ثورة يناير 2011 أنبل نضالات الشعب المصري على مر تاريخه، بجريمة تنفضح معالمها وأسرارها وطلاسمها كل عام، اسمها جريمة 30 يونيو /حزيران 2013 التي تملأ كل سنة سلة العدو الصهيوني بمزيد من الثمار، وتقتطع من جسد مصر، وتمنح الأوغاد الصغار والكبار، ولا تزال تواصل هداياها للصهيوني.


في يونيو/حزيران من هذا العام 2022، يفقأ الصهيوني عين مصر مرة أخرى بأعلامه الزرقاء معلنا التوقيع على اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي تجعل مصر شريكًا كاملًا في جريمة سرقة الاحتلال الإسرائيلي الغاز الطبيعي من فلسطين المحتلة، وإسناد مهمة تغليف المسروقات ونقلها للبيع في أسواق أوروبا للحكومة المصرية التي تحتفل بمنتهى السعادة، بنجاح جهودها في سرقة تاريخ فلسطين وحاضرها ومستقبلها، بوصفها الحامية للص الصهيوني، والقائمة على حراسة وتأمين مسروقاته من فلسطين حتى عبور الأراضي المصرية، بسلام إسرائيلي، ليغذي أوروبا.


هي نكسة يونيوية جديدة، تضاف إلى نكسات الشهر الكئيب منذ العام 1976 وحتى الآن، يمكنك أن تطلق عليها "نكسة الغاز" التي اختار لها الصهيوني موعدًا دالًا، والصهيونية عادةً لا تترك توقيتاتها للصدف، ففي مثل هذه الأيام قبل ثلاث سنوات فقط، رحل الرجل الذي أنفق العقدين الأخيرين من عمره مقاتلًا ضد بيع الغاز المصري للكيان الصهيوني، معلنًا حملة "لا لنكسة الغاز" التي انطلقت في تسعينيات القرن الماضي معبرة عن روح مصر الحقيقية، تلك الروح التي تضافرت فيها كل الجهود وتشابكت كل خطوط الجماعة الوطنية المصرية، لتنظم عقدًا من ورود النضال ضد التطبيع وضد الفساد والاستبداد والتبعية والتقزم.


ذلك هو السفير إبراهيم يسري، مساعد وزير الخارجية للقانون الدولي والمعاهدات، وسفير مصر لدى الجزائر، الذي مات من دون أن تبذل تلك التي كانت تسمى "الجماعة الوطنية" جهدًا يذكر لإقامة سرادق عزاء يليق بقيمة ومكانة الرجل في تاريخ المقاومة والنضال، ليوارى جثمانه في صمت عاجز، أو عجز أخرس، بمسقط رأسه بمحافظة الشرقية.


مثل إبراهيم يسري، كان الرئيس الشهيد محمد مرسي، شرقاوياً أصيلاً آخر خرج من المحافظة التي كانت واحدة من البوابات المؤدية إلى ساحات الكفاح الوطني ضد العدو الصهيوني، إذ كانت تمثل العنق في جغرافيا الحدود الشرقية، بلد الزعيم أحمد عرابي المجاهد ضد الاستعمار البريطاني، وبلد الجندي الشهيد سليمان خاطر، صاحب أعلى وأقوى صرخة ضد التغلغل الصهيوني داخل مصر في زمن حسني مبارك.


في مثل هذا اليوم 17 يونيو/حزيران 2019، احتفل الكيان الصهيوني بمقتل محمد مرسي، على يد عصابات الإجرام الحاكم في مصر، التي لا تقل همجية وانحطاطًا عن "شتيرن" و"الهاغاناه" الصهيونية في مستهل جرائم الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني.


يوم سقوطه قتيلًا على مرأى ومسمع من العالم داخل قاعة المحكمة الظالمة التي تشكلت خصيصًا من أجل تصفيته، صرخ الرئيس الشهيد أثناء الجلسة: أتعرض للموت المتعمد وتعرضت للإغماء أكثر من مرة الأسبوع الماضي".


لم تمض سويعات، وربما دقائق، حتى أعلنوا الخبر: رحيل أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، وأبرز وأجلّ معطيات ثورة يناير 2011.


نفذ "بياع الغاز الإسرائيلي" جريمة قتل محمد مرسي، ثم منع إقامة الصلاة على روحه، كما منع تنظيم جنازة شعبية له، من دون أن تنبس تلك التي كان اسمها ذات يوم "الجماعة الوطنية" ببنت شفة، أو تطلب إيضاحًا لوفاته، أو تبدي حدًا أدنى من الرحمة مع ذكراه، إذ كان جل أعضائها يتفرجون بتلذذ مقزز على التنكيل به فوق شاشات التلفزة وأثناء جلسات المحاكمة، ويرددون مثل قطيع من الجراء الإلكترونية عبارة "عزيزي بيريز" كلما ذُكِر اسمه.


الآن هذه الجماعة، وبالأخص المكونات القومية والناصرية واليسارية، تمر عليها مشاهد التوقيع على الشراكة المصرية الصهيونية في سرقة غاز فلسطين، من دون أن يهتز لها جفن، فلا بيان أو تصريح مندد بوضوح أو على استحياء بتحويل مصر العربية الرائدة الكبيرة إلى مجرد موزع معتمد لحصيلة سرقات الكيان الصهيوني من ثروات فلسطين المحتلة، في حفل عالمي بهيج يقام بالتزامن مع ذكرى رحيل سفير "لا لنكسة الغاز" وشهيد مشروع 30 يونيو الصهيوني في مصر.


هذه الجماعة الوطنية مشغولة باختيار أفخم ثيابها لحضور ما يسمى "الحوار الوطني"، الذي أمر به "بياع الغاز الإسرائيلي" من أجل تكوين ألبوم صور مثير يعرضه على الراعي الأميركي الذي يستعد للحضور إلى إسرائيل، ثم الانتقال منها لزيارة تيران وصنافير المصرية، السعودية الجديدة كليًا، سعودية محمد بن سلمان المتوثب لارتشاف ما يسد عطشه للتطبيع الذي تأخر.


هذه الجماعة "الوطنية جدًا" لم يعد يستفزها شيء أو يدعوها للخجل من ذكرى الذين كانت تحتفل بهم من قبل، محمود نور الدين وخالد جمال عبد الناصر، وكل عنقود نضال تنظيم "ثورة مصر" وسليمان خاطر وسعد إدريس حلاوة. وكيف تتذكر، ومن أين لها الوقت لتذكر هؤلاء، وهي غارقة حتى كتفيها في تدبيج رسائل الشكر والعرفان، وتسول العفو من القاتل الذي ذبح كل معاني الكفاح، ونحر كل رموز النضال، وصار يباهي بسرقة فلسطين، متحالفًا مع العدو الذي احتل أرضها وبسط سيطرته على ثرواتها، ثم قرر أن يبيع منها للأوروبيين عن طريق منافذ مصرية، يشرف عليها صاحب العفو ومانح الحوار الوطني.


هنيئًا لكم أيها الوطنيون القومجيون بأرباح ممارسة القوادة على الغاز الفلسطيني، وبمكاسب الحوار مع القتلة، والتماس العفو منهم عمن تختارون من أصدقائكم، وطوبى للشهداء وهنيئًا لهم بهذه الجموع الغفيرة من الشعوب التي تحب فلسطين، وتعرف من يحبون فلسطين حقًا، وتحيي ذكراهم، وفي مقدمة هؤلاء الشهيد محمد مرسي، الذي قتله "بياع الغاز الإسرائيلي" والعنوان مأخوذ من قصيدة مخفية لقومجي أخرس، صرخ يوم مذبحة المصلين في باحة الحرم الإبراهيمي بالخليل المحتلة سنة 1994 قائلًا "بياع موز إسرائيلي أشرف على المذبحة"، وقت أن كان التطبيع المصري الصهيوني باستيراد سلالات الموز من العدو يمثل عارًا وطنيًا وقوميًا.


الذين صرخوا ضد "عار الموز" قبل أكثر من ربع قرن، يبايعون بطل "عار الغاز" ويلتمسون منه العفو والحوار الآن.


نقلا عن: العربي الجديد