كتب / وائل الحديني :
 
ربما رسخ الاعتداء الإسرائيلي على قافلة الحرية، ومقتل عدد من المتضامنين الأتراك على ظهر السفينة مرمرة، استمرار تسليط الأضواء (بقوة ) على الدور التركي النشط في المشرق ، وعلى شخصية رجب الطيب أردوغان الذى أصبح أقرب إلى بطل أسطوري منقذ ، فى زمن يراه الكثيرين يوصم بالتراجع والهزيمة .
وهذا الدور ليس دوراً ظرفياً ، وإنما يخضع لرؤية استراتيجية ، وفكر تكتيكي محكم يستند على حزمة من البدائل 
: فإذا كانت تركيا غير قادرة على الإنضمام إلى الإتحاد الأوربي ولو فى قاعدة الهرم ، فالفضاء فى إتجاه الشرق مفتوح على مصراعية ، ينتظر من يجلس على قمته .
فمنذ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في نهاية 2008، والجميع يرقب باهتمام بالغ التوتر المتصاعد في العلاقات التركية - الإسرائيلية، وقد أدهشتهم في المقابل الخطوات المتسارعة التي اتخذتها الحكومة التركية خلال السنوات القليلة الماضية للتقارب مع المحيط العربي.

ويرجع التعثر الذي شهدته العلاقات التركية الإسرائيلية منذ الحرب على غزة إلى عدة عوامل:
1ـ الشعور التركي بأن زيارة أولمرت لأنقرة قبل ساعات من الهجوم على قطاع غزة استبطنت خديعة للجانب التركي؛ وهو الأمر الذي أسهم في ارتفاع وتيرة رد الفعل التركي على الحرب.
2ـ اتساع نطاق المعارضة الشعبية التركية لإسرائيل وسياساتها. ولأن حكومة العدالة والتنمية جاءت من خارج مؤسسة الحكم التقليدية، وتتعامل بحساسية كبيرة مع توجهات الشعب، الذي هو سندها الرئيس، فكان عليها أن تأخذ اتجاه الرأي العام التركي في الاعتبار.
3ـ الفراغ الذي تراه حكومة تركية طموحة ونشطة في الجوار، سواء لتراجع دور الولايات المتحدة، أو لانسحاب دول عربية رئيسية من مواقعها. وكان طبيعيًا أن يشجع هذا الفراغ تركيا على القيام بدور أكبر في قضايا المنطقة، وأن يصطدم هذا الدور تلقائيًا بالدولة الإقليمية الثانية الأبرز في الجوار، أي إسرائيل.
بيد أن ثمة بعداً آخر لهذا الاهتمام يشير إليه د / بشير نافع وهو : " هناك تاريخ عثماني مديد يربط بين العرب والأتراك، لم يمر على نهايته سوى عقود قليلة ، الحنين العربي للماضي العثماني، يعززه بحث العرب عن دولة قائدة، بعد انسحاب كبريات الدول العربية من مسؤولياتها. في تصدى تركيا العدالة والتنمية للاستهتار الإسرائيلي، وفي حرص تركيا الحثيث على تعميق الروابط مع جوارها العربي، بدا وكأن العرب وجدوا ضالتهم. صور أردوغان وأعلام الجمهورية التركية (التي هي الأعلام العثمانية) رفعت عالياً في المظاهرات الاحتجاجية التي اجتاحت المدن العربية، من غزة وصنعاء والقاهرة إلى الدار البيضاء. ولم يخش المتظاهرون العرب تذكير حكامهم ووزراء خارجيتهم بضرورة التعلم من نظرائهم الأتراك. ورغم أن بعضاً من الأجداد استغرب يوماً أن تكون اسطنبول وليس بغداد أو دمشق أو القاهرة مقراً للخلافة الإسلامية، فقد اكتشف قطاع من العرب في صلابة أردوغان صورة تذكرهم بأن تلك البلاد كانت يوماً حاضنة الخلافة.
كما أن تركيا العدالة والتنمية تمر بطور انتقالي، طور يتعلق بإعادة اكتشاف الذات والتاريخ، وتحديد المتطلبات الاستراتيجية لبناء دولة حرة وقوية ومؤثرة.
 
المرتكزات التي تقوم عليها السياسة التركية فى الداخل والخارج :

 
كان البعض يعتقد أنه ربما لم يسبق لرجل أن يحكم بلدًا من قبره ولمدة زادت على ثلاثة أرباع قرن سوى رجل واحد ، ذاك هو أتاتورك، وهذا ربما إشارة إلى قوة العلمانية التركية وقدرتها على فرض ميولها، رغم مرور الزمن ، و ما حدث في الساعة التاسعة وخمس دقائق في 10/11/1938 عندما لفظ أتاتورك آخر أنفاسه في قصر دولما باغشة في اسطنبول لم يكن يعني أن العلمانية الأتاتوركية فقدت حصونها المنيعة، فحراس صنم أتاتورك كانوا أكثر التزامًا بمبادئه، وأشدُ تطرفًا في مواجهة أعدائه.
 لكن "العدالة والتنمية" صنع المستحيل ، وتجاوز هذا الاعتقاد عبر عدد من الخطوات :

(1) توسعة الآفاق.. وتهميش المحددات.. وإجادة سنن المدافعة :
يشير كمال السعيد حبيب إلى أن التقاليد العثمانية التي تقوم على التوافق والتعايش بين خيارات متعددة تسببت في فشل الأتاتوركية الاستئصالية، بينما تراجعت للسبب ذاته الأربكانية الإحيائية الجذرية.
 أما الأردوغانية التوافقية في صفتها الديمقراطية المحافظة "العثمانية الجديدة "والتي تبناها أردوغان وجول وبولنت أرينش، وعبد اللطيف شنر، فقد استوعبت الدرس، وجعلت الدولة تسبق الدين بخطوة، بإدراك جديد، وانتهاج خيارات مغايرة، لم يفرضوا مبادئ الإسلام من أعلى، وإنما وقفوا مع الجميع في نفس الصف، ومن ثمَّ بدءوا التفاوض والحوار للوصول إلى حلول وسط....
فقد سعوا للتوفيق بين طبيعة النظام القائم، وتلك الطاقات التي يملكونها بدون صدام ، فقد وصف أردوغان نفسه بأنه رئيس متدين لحكومة علمانية، مضيفًا: العلمانية الحقيقية من وظائفها حماية الدين والمتدينين لا محاربتهم .
كما أنهم نجحوا في فرض واقع جديد يتميز بـ:
· الاستقرار السياسي.
· الاستقرار الأمني بعد المضي خطوات في الحرب ضد حزب العمال الكردستاني من جهة، واستمالة الأكراد من جهة أخرى.
·  الاستقرار الاقتصادي بعد التخلص من شبح الأزمات الاقتصادية المتكررة.
 يقول أحمد منصور: وتشكل قصة نجاح حزب العدالة والتنمية في المجال الاقتصادي التركي أحد أهم عوامل زيادة شعبية الحزب جماهيريًّا ومن العناصر الأساسية التي دفعت إلى فوزه في الانتخابات التشريعيةٍ والرئاسية الأخيرة، والتي استطاع من خلالها اكتساح جميع منافسيه وإخراج النخبة العلمانية والجيش (من حلبة المنافسة)، ووضعهم في خانة ضيقة، وكان الوضع الاقتصادي البائس، والانهيار التجاري والمالي لتركيا هو التحدي الأول للعدالة والتنمية، لكنه بمرور الوقت أصبح المعجزة التي ثبّت أردوغان من خلالها أقدامه، ووضع اسمه كواحد من أهم الشخصيات تأثيرًا في التاريخ التركي الحديث. 

 (2) تقديم القدوة في غيبة المصطلح :
يقول سعد عبد المجيد: لم يتخلف أردوغان يومًا عن واجب العزاء لأي تركي يفقد عزيزًا ويدعوه للجنازة. اقترب الطيب من الجماهير خاصة البسطاء منهم، قال أحدهم: نحن نفخر بأردوغان ونعتقد أنه لن يجرؤ أحد بعد اليوم على السخرية منا أو إهمالنا.

(3) بناء السياسة الخارجية التركية على أسس ومرتكزات طموحة:
 ذكر أحمد داود أوغلو منظر السياسة الخارجية التركية، ومحركها المرتكزات التي تقوم عليها السياسة الخارجية التركية في مقالاته ودراساته وأهمها كتاب "العمق الإستراتيجي"، وهي تهدف من وجهة نظره إلى:
- التوفيق بين الحريات والأمن.
 - تصفير المشكلات مع دول الجوار والوصول إلى علاقات جيدة مع الجميع: (حل المشكلة الكردية التي تسير بقوى حثيثة، توقيع اتفاقية مع أرمينيا تنهي عقودًا من الصراع، إلغاء تأشيرات الدخول مع سوريا).
 - إتباع سياسات متعددة الأبعاد ومتعددة المسالك تتلاءم وتتواءم مع الظروف العالمية المتحركة.
 - تطوير الأسلوب الدبلوماسي، وإعادة تعريف تركيا من جديد كطرف فاعل وليس مجرد جسر للتواصل .
ولم يخف أوغلو طموحه في أن تتحول تركيا إلى قوى مؤثرة في النظام العالمي الجديد الذي يعتقد أنه سيتم تأسيسه خلال من 10 إلى 15 عامًا، كبديل للنظام الحالي، واستنادًا لهذه المبادئ يرى أوغلو أن توفير الأدوات الضرورية لها يتطلب إعادة بوصلة تركيا إلى عمقها في العالم الإسلامي والعربي الذي ابتعدت عنه منذ انهيار السلطة العثمانية، مما جعلها جزءًا تابعًا للمنظومة الغربية الإسرائيلية.

وعلى هذا الأساس ، فإن استمر حزب العدالة والتنمية في الحكم ربما يوازيه مزيداً من التأزم فى العلاقات مع الكيان الصهيوني  ، على اعتبار أن سياسة الانفتاح على الجوار، اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا، التي تتبناها حكومة العدالة والتنمية لابد أن تصطدم بسياسة الهيمنة والتوسع والسيطرة التي تدمنها إسرائيل .

معارك اردوغان

ربما يكون أردوغان قد نجح فى معاركه الأصعب ، ففي معركة الإقتصاد ، زاد الناتج القومي أضعافاً ، وكذا زادت الصادرات ودخل الفرد ومعدلات النمو ، وانخفضت نسبة الفائدة ، ووفرت الحرب على الفساد للدولة عشرات المليارات من الدولارات .
أيضاً نجح فى معركة الجيش الذي قام بإنقلابات فى أعوام 1960 ، و1971 ، و1980، وإنقلاب ابيض فى 2007 ، عبر محاولات التقليص من صلاحيات رئيس الأركان ، واخراج الجيش من لعبة السياسة ، وكانت ردة فعله بعد فضيحة المطرقة هي الاعنف ، حيت مرر تعديلات دستورية تسمح بمحاكمة العسكريين بما في ذلك كبار قادة الجيش أمام المحاكم المدنية بدلا من العسكرية.
 وهذا التعديل عًرض العديد من كبار ضباط الجيش المرتبطين مع شبكة (أرغينيكون- الوطنيون الجدد) لعقوبات مشددة على محاولتهم الانقلابية التي عرفت بـ (البايلوز– المطرقة) ضده.
وكأن العدالة يقول أن إنقلاب 80 انتهي للأبد بآثاره ونتائجه وذكراه .
 يضاف إلى ذلك أن طبقة جديدة من الجنرالات برزت بعد عام 1983 تختلف فى نمط تفكيرها ، وتبدو أكثر تقبلاً للمفهوم الديمقراطي ، من (كنعان إيفرين وتورجوت أوزال ) .
أما ما يخص السياسة الخارجية للعدالة والتنمية فلا أحد حتى اشد خصومه تطرفاً يستطيع ان يتحدث عن ذلك ، فيما عدا التلميح بزيادة استفزازاته (لإسرائيل ) !

الرئيس أردوغان
طرح أردوغان فكرة  تعديل النظام  الرئاسي للمرة الأولى قبل عامين، والتي آثارت معارضة صاخبة في أوساط أحزاب المعارضة البرلمانية وغير البرلمانية.
 ولكن الفكرة أصبحت الآن أكثر جدية.
إقرارنظام رئاسي قوي على الطريقة الفرنسية يحظى بصلاحيات كبيرة ينقله إلى قصر "تشانقايا" الرئاسي عام 2012 .
وفى هذه الحالة سيقدم استقالته من رئاسة الحكومة والحزب ، ليخوض انتخابات رئاسة الجمهورية ، التي ستُعقد للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية عن طريق الاقتراع الشعبي المباشر .
مسعى آخر يدعم هذه النقطة أن لوائح حزب العدالة والتنمية تنص على مغادرة أردوغان واقرانه مناصبهم عام 2015 بلا رجعه ، حيث أنه لا اردوغان نفسه ولا أي شخص فى تركيا أو العالم العربي والإسلامي يتخيل تركيا بدون ( أردوغان ) ووقع صوته ، وزخم قراراته !

 فى عام 1997 فى ذروة الإنبهار بوصول أربكان إلى الحكم ، وصدمة الإنقلاب عليه ، كتبت فى مجلة المجتمع الكويتية مقالاً يناقش نهاية المشروع النهضوي الإسلامي التركي ، واعتمدت فى تقنين الرثاء على عدد محدود من المؤشرات : أبرزها أن أربكان بعد أشهر قليلة فى الحكم أصبح فجأة خارج الحياة السياسية ككل ، ونائبه الأول أردوغان كان ينفذ حكماً بالسجن بسبب أبيات من الشعر .
وأنهيت المقال بما كان يردده الكاتب الأردني محمود الخطيب : " أن تركيا التي أنجبت محمد الفاتح قادرة على إنجاب فاتح جديد لا يرضي أن يكون كمال أتاتورك المشكوك فى نسبه حارساً على بابه.

العودة ربما كانت اسرع مما تخيل الجميع ، عاد أردوغان واعتلى القمة ، ولم يكتفي بتحييد دور الجيش التركي وريث الكمالية فى السياسة الداخلية ، لكنه أطاح برموز العلمانية الإنقلابية وآخرهم دينيز بايكال ، وعندما ثبت سياسته فى الداخل إنطلق فى فضاء الخارج ، فطوحاته على مايبدو لا تعرف الحدود .

*كاتب مهتم بالشأن التركي