اسمه - نسبه - نسبته
هو أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران[3] الأزدي السجستاني.
وعمران هذا ذكر ابن عساكر وابن حجر أنه قتل مع علي بن أبي طالب بصفين[4]. وأبو داود عربي صميم من الأزد[5]، والأزد قبيلة معروفة في اليمن[6].
والسجستاني نسبة إلى بلد سجستان، وهي بكسر السين وفتحها، والكسر اشهر، والجيم مكسورة فيهما[7] ولم يذكر ياقوت في ((معجم البلدان)) إلا كسر السين[8].
وقد ذكرت الكتب التي ترجمت له أنه بلد يتاخم أطراف مكران والسند، وقررت أنه ما وراء هراة[9] وذكر ياقوت أنه ناحية كبيرة وولاية واسعة وأنها جنوبي هراة، ووصف حسن جوها وثمراتها وسكانها وعاداتهم[10] وقد وهم من زعم أنّ سجستان قرية من قرى البصرة[11].
وذكر الأستاذ محبّ الدين الخطيب رحمه الله في مقدمته لكتاب ((موارد الظمآن)) أن سجستان هي بلاد الأفغان الآن[12] وهي في الحقيقة القسم الجنوبي من بلاد الأفغان.
ويقال له السجستاني والسجزي وهي نسبة على غير القياس قال فيها المنذري: وهو من عجيب التغيير في النسب[13].
وقيل: السجزي إلى سجز وهي سجستان[14].
نشأته
ولد أبو داود سنة 202هـ كما ذكرنا وتلقى العلم على علماء بلده، ثم ارتحل وطوّف بالبلاد في طلب العلم وتحصيل الرواية، فزار العراق والجزيرة والشام ومصر وكتب عن علماء هذه البلاد جميعاً. قال الخطيب: "وكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين والمصريين والجزريين"[15].
وليس من شك في أنّ هذه الرحلات قد وسعت من افقه وأطلعته على ألوان الثقافة في عصره في كل أنحاء العالم الإسلامي.
والبلاد التي سكنها كثيرة نذكر منها ما وصل إليه علمنا وهي:
سجستان التي كانت بلده والتي نسب إليها، وخراسان، والري[16]، وهراة[17]، والكوفة التي دخلها سنة 221هـ كما ذكر الخطيب[18]، وبغداد التي قدم إليها مرات، وآخر مرة زارها كانت سنة 271هـ، وطرسوس التي أقام بها عشرين سنة[19]، ودمشق التي سمع الحديث فيها كما يذكر ابن عساكر[20]، ومصر أيضاً، والبصرة التي انتقل إليها بطلب من الأمير أبي أحمد الموفق[21] الذي جاء إلى منزله في بغداد واستأذن عليه ورجاه أن يتخذ البصرة وطناً ليرحل إليها طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بسببه فإنه قد خربت وهُجرت وانقطع الناس عنها لما جرى عليها من فتنة الزنج [22].
وهذا الخبر يدل على أن شهرة أبي داود قد طبقت الآفاق، فالناس يعرفون له قدره وفضله وشهرته، وأحسّت الدولة بذلك فطلبت إليه أن يرحل إلى البصرة البلدة المنكوبة لتعود إليها الحياة ولتعمر من جديد. وفي هذا دلالة على طبيعة حضارتنا ومنزلة العلم والعلماء فيها، فإن سكنى مثل أبي داود فيها كان العلاج لردِّ العمران إلى بلد مخرّب مهجور. وهكذا فقد وفق الله أبا داود أن يكون شخصية علمية مرموقة في عصره كان لها أكبر الأثر على الناس في عصره والعصور التي تلت.
علمه
كان أبو داود أحد حفاظ الإسلام، وكان من أوسع العلماء معرفة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقهه وعلله ومتونه ورجاله.
ويبدو أن علماء عصره كانوا يعرفون مكانته العلمية الكبرى ويقدرونه حق قدره؛ يدل على ذلك عدد من الأخبار:
منها ما ذكروا من أنّ أحمد بن حنبل روى عنه حديثاً، وكان أبو داود شديد الاعتزاز به.
ومنها ما ذكروا من أن سهل بن عبدالله التستري جاء إلى أبي داود.
فقيل: يا أبا داود هذا سهل جاءك زائراً، فرحّب به وأجلّه.
فقال له سهل: يا أبا داود لي إليك حاجة.
قال: وما هي؟
قال: حتى تقول قد قضيتها مع الإمكان.
قال: قد قضيتها مع الإمكان.
قال: أخرج إلي لسانك الذي حدثت به أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبله، فأخرج إليه لسانه فقبله[23].
وكان علمه متعدد الجوانب، فهو - مع تخصصه في الحديث - فقيه عظيم، وقد عدّه الشيخ أبو الحسن الشيرازي في طبقات الفقهاء من جملة أصحاب أحمد بن حنبل، وكذا أبو يعلى في ((طبقات الحنابلة)) والعليمي في ((المنهج الأحمد))[24].
وأبو داود ناقد كبير، وليس هذا غريباً على إمام من أئمة الحديث، لأن هذا العلم يربي في أتباعه حاسة النقد، وقد استطاع أن يبلغ مستوى راقياً من رهافة الحسّ ودقة النقد، وسنرى في دارستنا لكتاب ((السنن)) نماذج من نقده العميق، ولكنني هنا أود أن أشير إلى مجال سبق إليه أبو داود ويحسب بعض الباحثين أنه جديد وأنّ الأقدمين لم يعرفوه، وذلك هو نقد الكتابة وتقدير عمرها بالنسبة إلى الحبر القديم والحديث، يدل على ذلك خبر جاء في كتاب ((الميزان)) للحافظ الذهبي وهو: (قال زكريا بن يحى الحلواني: رأيت أبا داود السجستاني قد جعل حديث يعقوب بن كاسب وقايات[25] على ظهور كتبه، فسألته عنه فقال: رأيتنا في مسنده أحاديث أنكرناها، فطالبناه بالأصول، فدافعنا، ثم أخرجها بعد، فوجدنا الأحاديث في الاصول مغيرة بخط طري؛ كانت مراسيل فاسندها وزاد فيها)[26] وتقدير العمر بالنسبة للحبر أمر يتصل بتقدير العمر بالنسبة إلى الورق ولا أستبعد أن تكون هناك حوادث من هذا القبيل في حياة صاحبنا العلمية، والله أعلم.
ومما يدل على مكانته العلمية ثناء العلماء عليه وسنذكر بعضه في الفقرة الآتية:
ثناء العلماء عليه:
كان الثناء عليه من قبل المعاصرين له والذين جاؤوا من بعده مُنصباً على ناحيتين:
سعة علمه ودقة تحقيقه.
وكرم أخلاقه وتقواه.
فلقد كان - رحمه الله - مثلاً عالياً في صفتي المحدث القوي وهما العدالة والضبط.
طريقته واستقصاؤه
كان أبو داود - كما أسلفنا - يريد جمع أحاديث الأحكام التي يحتج بها الفقهاء وكان ذلك همه الأول، وقد استطاع أن يبلغ أكثر ما يريد، وهذا واضح من استعراض كتابه وهذا ما قرره العلماء أيضاً.
قال الدهلوي في ((حجة الله البالغة)): "كانت همة أبي داود جمع الأحاديث التي استدل بها الفقهاء ودارت فيهم، وبَنى عليها الأحكام علماءُ الأمصار فصنّف ((سننه)) وجمع فيها الصحيح والحسن واللين والصالح للعمل"[207].
وقال الدهلوي أيضاً في صدد حديثه عن الترمذي وأنه جمع بين طريقة الشيخين اللذين بيّنا وطريقة أبي داود الذي جمع كل ما ذهب إليه عالم من العلماء فقال: "كان استحسن طريقة الشيخين حيث بيّنا وما أبهما، وطريقة أبي داود حيث جمع كل ما ذهب إليه ذاهب، فجمع كلتا الطريقتين وزاد"[208].
ويدلك على ذلك أنه يعقد باباً في جواز الشي وكراهته، وهذا كثير جداً، مثل: (باب كراهة استقبال القبلة عن الحاجة) والباب الذي يليه (باب الرخصة في ذلك)[209] ومثل (باب الوضوء من مسّ الذكر) والباب الذي يليه (باب الرخصة في ذلك)[210].
وفي جمعه لكل ما ذهب إليه العلماء فوائد منها:
• بيان أنّ بعض الأحاديث أقوى من بعض، لا سيما عندما يعلق على واحدٍ مضعفاً إياه ويسكت عن آخر.
• ومنها بيان أنّ الأمر جائز مع الكراهة وليس حراماً، أو هوَ رخصة.
• ومنها إتاحة الفرصة للانسان لكي يوازن بين أقوال العلماء ويرجح ما ينصره الدليل ويعضده.
• وقد ذكر هو في ((رسالته إلى أهل مكة)) أنه قصد جمع أكبر قدر ممكن من السنن التي عليها مدار الأحكام فقال: "فإنْ ذكر لك عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة ليس مما خرجته فاعلم أنه حديث واهٍ إلاّ أن يكون في كتابي من طريق آخر، فإني لما أخرج الطرق لأنه يكبر على المتعلم ولا أعرف أحداً جمع على الاستقصاء غيري"[211].
ومن حرصه على الاستقصاء في جمع الأحاديث المتصلة بالأحكام أنه قد يورد الحديث دون سند بعد أن يكون قد أورد حديثاً مسنداً، كما في الحديث 16 وهو:
(حدثنا عثمان وأبو بكر قالا: حدثنا عمر بن سعد عن سفيان عن الضحاك بن عثمان عن نافع عن ابن عمر: مَرَّ رَجُلٌ عَلى النَبيِّ صلى الله عليه وسلم وَهوَ يَبُول، فَسَلّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. قَالَ أبُو دَاوُد: وَرُوي عن ابنِ عُمَر وَغَيْرِه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تَيَمّمَ ثمَّ رَدَّ عَلى الرَّجُلِ السّلام) [212].
فالزيادة التي في الرواية الثانية قد أوردها هنا دون سند وبصيغة التمريض رغبة منه في الاستقصاء مع الاختصار؛ وذلك لأنه أوردها في باب التيمم بالسند وذلك في الحديث [213] رقم 330، ولكنه ذكر هناك ما يدل على ضعف هذا الحديث.
• ومن طريقته أنه كثيراً ما يروي الحديث عن أكثر من شيخ وتارة عن ثلاثة وتارة عن أربعة.
ففي الحديث 188 روى الحديث عن شيخين وكذا في 1365.
وفي الحديث 185 روى الحديث عن ثلاثة شيوخ.
وفي الحديث 992 روى الحديث عن أربعة شيوخ.
كتاب السنن
أنجز الإمام أبو داود كتابه الشهير "السنن"، وقام بعرضه على الإمام أحمد بن حنبل الذي استحسنه.
وفي هذا الكتاب لم يقتصر على الحديث الصحيح، بل شمل الحسن والضعيف والمحتمل وما لم يجمع على تركه، وكانت حصيلته 4800 من الأحاديث التي انتقاها من 500 ألف حديث.
واهتم في كتابه بجمع الأحاديث التي استدل بها الفقهاء، ودارت بينهم وبنيت عليها أحكام العلماء في الأمصار، وهي ما يعرف بأحاديث الأحكام، وقد ذكر أنه اهتم فقط بالأحكام ولم يخرّج أحاديث الزهد والفضائل.
وقد جاء كتاب السنن لأبي داود مرتباً على شكل أبواب وهي 1871 بابا في 35 كتابا، وفيه الأحاديث المرفوعة إلى الرسول والموقوفة على الصحابة والآثار المنسوبة إلى العلماء التابعين.
وقد قال عن كتابه: "ما كان في كتابي هذا من حديث فيه وهن شديد بينته ومالم أذكر فيه شيئا.. فهو صالح".
شروحات على السنن
قام عدد من العلماء بعمل شروحات على كتاب "سنن أبي داود"، ومنها: معالم السنن لأبي سليمان الخطابي المتوفى سنة 388هـ، وشرح السيوطي المتوفى 911هــ وشرح للسندي المتوفى 1138هـ .
مؤلفات أخرى
لأبي داود العديد من المؤلفات الأخرى غير السنن، التي أظهرت تنوع علمه وسعته، ومنها: المصاحف، العدد، المراسيل مع الأسانيد، الناسخ والمنسوخ، الدعاء، الزهد، دلائل النبوة، وغيرها.
وفاته
وقد توفي بمدينة البصرة سنة 275هـ بعد حياة حافلة بالعلم والالتزام الذي جعله مضرب مثل في التمسك بالسنة النبوية في العمل، وهو ما سار عليه ابنه أبوبكر من بعده في المنهج ذاته.