محمد عبد الرحمن صادق :

إن الإسراء والمعراج يُعد من أصعب الأحداث الإيمانية التي مرت على الإسلام والمسلمين ، وذلك لكونه حادثًا وصفياً يصعب على العقل البشري تصديقه إلا إذا كان موصولاً بالله تعالى . وإذا لم يتشبع هذا العقل بالإيمان العميق ، لصعب عليه استيعاب هذا الحدث ، لذا نجد أن من الصحابة من فتنوا وتساقطوا في هذا الحادث . وفي المقابل نجد أن من تشبع بالإيمان وعاشه وعايشه قد تقبل الأمر ببساطة كبيرة ، كما فعل الصديق أبو بكر رضي الله عنه .

أولاً : الإسراء والمعراج رحلة الريادة والمكانة : حاء في  كتاب  " الرحيق المختوم " للمباركفوري رحمه الله : يرى القارئ في سورة الإسراء أن الله ذكر قصة الإسراء في آية واحدة فقط ، ثم أخذ في ذكر فضائح اليهود وجرائمهم ، ثم نبههم بأن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم ، فربما يظن القارئ أن الآيتين ليس بينهما ارتباط ، والأمر ليس كذلك ، فإن الله تعالى يشير بهذا الأسلوب إلى أن الإسراء إنما وقع إلى بيت المقدس ؛ لأن اليهود سيُعزلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية ؛ لما ارتكبوا من الجرائم التي لا مجال بعدها لبقائهم على هذا المنصب ، وإن الله سينقل هذا المنصب فعلاً إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ويجمع له مركزي الدعوة الإبراهيمية كليهما ، فقد آن أوان انتقال القيادة الروحية من أمة إلى أمة ؛ من أمة ملأت تاريخها بالغدر والخيانة والإثم والعدوان ، إلى أمة تتدفق بالبر والخيرات ، ولا يزال رسولها يتمتع بوحي القرآن الذي يهدى للتي هي أقوم ‏.‏

 ولكن كيف تنتقل هذه القيادة ، والرسول يطوف في جبال مكة مطرودًا بين الناس‏ ؟‏ هذا السؤال يكشف الغطاء عن حقيقة أخرى ، وهي أن عهدًا من هذه الدعوة الإسلامية قد أوشك إلى النهاية والتمام ، وسيبدأ عهد آخر جديد يختلف عن الأول في مجراه ، ولذلك نرى بعض الآيات تشتمل على إنذار سافر ووعيد شديد بالنسبة إلى المشركين ‏"‏ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً {16} وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً {17} "‏ ( الإسراء‏ ‏16- 17‏ )‏ وبجانب هذه الآيات آيات أخرى تبين للمسلمين قواعد الحضارة وبنودها ومبادئها التي يبنى عليها مجتمعهم الإسلامي ، كأنهم قد أووا إلى أرض امتلكوا فيها أمورهم من جميع النواحي ، وكونوا وحدة متماسكة تدور عليها رحى المجتمع ، ففيه إشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيجد ملجأ ومأمنًا يستقر فيه أمره ، ويصير مركزًا لبث دعوته في أرجاء الدنيا ‏.‏ هذا سر من أسرار هذه الرحلة المباركة ، يتصل ببحثنا فآثرنا ذكره ‏.‏ ولأجل هذه الحكمة وأمثالها نرى أن الإسراء إنما وقع إما قبيل بيعة العقبة الأولى أو بين العقبتين ، والله أعلم‏ .‏

- إن الإسراء والمعراج حقاً هما لغتا الريادة والمكانة اللتان نالهما النبي صلى الله عليه وسلم .

 - الريادة في الإسراء : حين أَمَّ نبينا صلى الله عليه وسلم الأنبياء عليهم السلام ، ليربط أمته بكل أصولها وأسلافها من الأنبياء والصديقين والشهداء ، وليصل بها إلى أنها أمة الإمامة ، أمة القيادة ، أمة الواجب ، أمة المسئولية . فهي الأمة التي تسلمت الراية التي ستظل عالية خفاقة بفضل الله تعالى ثم بفضل جهود المخلصين من هذه الأمة إلى يوم القيامة .

- والمكانة في المعراج : فقد وصل النبي صلى الله عليه وسلم في معراجه إلى السماء حيث لا يصل أحد ، توقف الأنبياء والملائكة ، ومضى هو صلى الله عليه وسلم إلى أعتاب ربه جل شأنه ينال الشرف والسمو والعلاء ، ويضفي كل هذا على أمته ، فتزهو به وتشرف ، وتكون أمة الشهادة : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً .... {143} " ( البقرة 143 ) ، وتغدو خير أمة : " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ {110} " ( آل عمران 110 ) .

- ولهذه المكانة شروط وتوابع ومهام ، لا ينالها إلا من قام بها بحقها ، وما حقها بهين ، ولا رخيص ، إنها الوصول إلى لقاء مالك الملك ذي الجلال والإكرام وهو فوق عرشه سبحانه ويا له من وصول ، ويا لروعته من لقاء ، فمن أرادها سهر الأيام والليالي ، أسلم النفس ، وهجر حب الذات ، وعرف دوره المنوط به . قال تعالى : " قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ {163}" ( الأنعام 162 – 163 ) .

ثانياً : نبذة عن بناء بيت المقدس وفضله : قال الحافظ السهيلي : وبيت المقدس بناه سليمان عليه السلام ، وكان داود عليه السلام قد ابتدأ مبناه فأكمله ابنه سليمان عليه السلام ، واسمه : إيلياء ، وتفسيره بالعربية : بيت اللّه ، ذكره البكري .

وقال الطبري رحمه الله : كان داود عليه السلام قد همَّ ببنيانه فأوحى اللّه تعالى إليه " إنما يبنيه ابن لك طاهر اليد من الدماء " ، وفي الصحيح أنه وضع للناس بعد البيت الحرام ، بأربعين سنة ، وهذا يدل على أنه قد كان بُني أيضاً في زمن إسحاق ويعقوب عليهما السلام ، ولكن بنيانه على التمام وكمال الهيئة كان على عهد سليمان عليه السلام .

1- عن أبى الدرداء رضي الله عنه قال : " قلت يا رسول الله أي المساجد وضع في الأرض أولا ؟ " قال : " المسجد الحرام " قلت : ثم أي ؟ قال : " المسجد الأقصى " . قلت : كم كان بينهما ؟ قال : " أربعون سنة " .

2- عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله خلالاً ثلاثاً : حكماً يصادف حكمه ، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه ؛ إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ". فقال رسول الله : " أما اثنتان فقد أعطيهما ، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة ". ولأجل هذا الحديث كان ابن عمر رضي الله عنهما يأتي من الحجاز ، فيدخل فيصلي فيه ، ثم يخرج ولا يشرب فيه ماء مبالغةً منه لتمحيص نية الصلاة دون غيرها ، لتصيبه دعوة سليمان عليه السلام .

3- عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت : " قلت يا رسول الله : أفتنا في بيت المقدس " ، قال : " أرض المحشر والمنشر ، ائتوه فصلوا فيه ، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره ، قلت : أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه ؟ قال : فتهدي له زيتاً يسرج فيه ، فمن فعل فهو كمن أتاه " .

4- عن أبي حوالة الأزدي رضي الله عنه قال : وضع رسول الله يده على رأسي أو على هامتي ثم قال : " يا ابن حوالة : إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة ، فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام ، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك " .

- ومما سبق من آيات بينات وأحاديث شريفة يتبين لكل صاحب عقل أن بيت الله الحرام وبيت المقدس هما بمنزلة العينينِ من الرأس ، واليدين من الجسد ، والقدمين من البدن ، وحين تفقد الأمة أحد هذين الركنين ، فإنها ستبقى مشلولة الجانب ، فلا ترى بوضوح ، ولا تعمل بجد ، ولا تتقدم ، فكيف لنا أن نبصر بعين واحدة ، أو نعمل بيد واحدة ، أو نمشي ونتقدم بساق واحدة .

وخلاصة القول أن الله تعالى قال : " وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ{120} " ( البقرة 120 ) فالصراع بين المسلمين واليهود بدأ منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن ينتهي وأن صراعنا مع اليهود سيبقى مفتوحاً والحرب سِجال بيننا وبينهم وستخفق كل الجهود المبذولة لإقفال الملف قبل أوانه أو مُسالمة اليهود ومُهادنتهم وخير للذين يتهالكون على حل التعايش السلمي مع اليهود ويغالبون قدر الله تعالى ومشيئته ويضيعون الكثير من أعمار الأمة وطاقتها وأموالها وبنيها خير لهؤلاء أن يكونوا ستاراً لقدرة الله تعالى وأن يُجنِّدوا كل الطاقات والقدرات والإمكانيات في سبيل الله وأن يسعوا ليكون على أيديهم الخير والفتح والتمكين وليهتموا بما سيكتبه عنهم التاريخ .

  - ومن المبشرات : أن الإسلام قادم شاء من شاء وأبى من أبى والدليل على ذلك هي هذه الأفواج التي تدخل في دين الله أفواجاُ كل يوم . ولو خُلِّي بين الناس وبين الإسلام لحُسم الأمر ودانت معظم البشرية لخالقها سبحانه وتعالى .

إن الجميع وخاصة أعداء هذا الدين يوقنون بأن دول أوروبا والغرب تحمل بين أحشائها جنيناً مسلماً وسيُوضع هذا الجنين شاءت أم أبت ولن يجهض أبداً لأن الله تعالى هو الذي تكفل بذلك " هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {33} " ( التوبة 33 ) .

- إن ذكرى الإسراء والمعراج لها دلالاتها الاعتقادية والسلوكية والأخلاقية ، وإحياء هذه الذكرى إنما يعني الالتزام بهذه المعتقدات ، ومن ثم الانضباط الصادق بالسلوكيات المنبثقة عنها، وهكذا يكون صدق الاحتفاء بذكرى الإسراء والمعراج . 

- هذه إطلالة سريعة نعذر بها إلى الله سبحانه وتعالى لنستفيد من هذه الذكرى العطرة ونقدمها للأمة ودعاتها وشبابها ليقتدوا برسولهم صلى الله عليه وسلم في حياتهم العملية ، ويتخذوا من المناسبات والإحداث الكبرى التي حدثت في سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم نقطة انطلاق للتغير الإيجابي في حياتهم . قال تعالى : " ...... وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ {5}‏ " ( إبراهيم 5 ) .