الشيخ / السيد طه

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد

1- معرفة السنن الإلهية فريضة شرعية وضرورة واقعية:
“فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب، وبين فيه ما لم يبينه في غيره ، بين فيه كثيرا من أحوال الخلق وطبائعهم والسنن الإلهية في البشر، قص علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسنته فيها فلا بد للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم، من قوة وضعف، وعز وذل، وعلم وجهل، وإيمان وكفر، ومن العلم بأحوال العالم الكبير علويه وسفليه، ويحتاج في هذا إلى فنون كثيرة من أهمها التاريخ بأنواعه…
أجمل القرآن الكلام عن الأمم، وعن السنن الإلهية، وعن آياته في السماوات والأرض، وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمال صادر عمن أحاط بكل شيء علما، وأمرنا بالنظر والتفكر، والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالا، ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره ، لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من علم وحكمة”.
” إن إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سننا ؛ يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علما من العلوم المدونة لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه، فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال وقد بينها العلماء بالتفصيل عملا بإرشاده، كالتوحيد والأصول والفقه.
والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن سجل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها.”
2- لا نستطيع أن نفهم التاريخ ونحلل الأحداث إلا بفهم السنن الإلهية:
فمن خلال السنن الإلهية نفهم التاريخ، ونفسر أحداثه تفسيرا شرعيا سليما ينفعنا في تقييم حاضرنا وتوقع مستقبلنا ؛ وللأسف كثير من المسلمين اليوم لا يملكون القدرة على ربط النتائج بالأسباب، وكشف اللثام عن حقيقة السنن بل قد يدهشهم الواقع دون تفسير حقيقي لما سيكون في الغد من أحداث، قد تكون سعيدة أو مؤلمة.
أما أصحاب البصائر من أهل العلم فهم يعرفون عوامل البناء والأمن والاستقرار والصحة والرفاهية، وعوامل الهدم والخوف والجوع والمرض، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾.
فتبدل الأحوال في المجتمع من الصحة إلى السقم، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الأمن إلى الخوف، ومن العزة إلى الذلة… مرتبط بإرادة الناس وسلوكهم وأفعالهم السلبية المخالفة لما أمر الله به.
وأسباب الاضمحلال والسقوط في مثل قوله تعالى﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾الإسراء.
إذ ربطت هذه السنة بين أمرين: بين فسق المترفين في المجتمع، وبين دمار ذلك المجتمع وانحلاله، وأهل الترف هم من سماهم القرآن الملأ وهم حاشية الملك من الأثرياء والوجهاء الذين شغلتهم أموالهم ومناصبهم عن أمر الآخرة فولوا وجوههم نحو الدنيا وجعلوها قبلتهم فكان دمارهم حتما ولزاما.
إنها سنة ماضية في كل المجتمعات التي تحيد عن منهج الله تعالى وتأبى الخضوع
لحكمه.
“والقرآن الكريم حين لفت أنظار الناس إلى أحوال الأمم السابقة وعواقب الأمم البائدة، إنما أراد بذلك أن نستخلص العبر ونستجلي العظات لبناء مجتمعات مؤمنة سليمة، قوية وعادلة.
3- معرفة السنن والسير على هداها أخذ بأسباب النصر والتمكين والفلاح:
لأن لله سنن في النصر والتمكين كما له سنن في التغيير والاستبدال وفي الغفلة عنها تفريط في الأخذ بأسباب النجاة وإعراض عن هدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله عز وجل، الذين هم أعرف الناس بالله سبحانه، وبأسمائه وصفاته، وبالتالي فهم أعرف بسننه سبحانه وعاداته وأيامه وهم ألزم الناس لها وللسير على ضوئها، وما حلت الهزيمة محل النصر والضعف محل القوة والعزة محل الذل إلا بسبب الإعراض عن معرفة سنن الله عز وجل وما فيه من الهدي والنور.
ولكن النظر إلى هذه السنن يهب المؤمن كذلك الاطمئنان إلى وعد الله تعالى بنصر المؤمنين الصادقين، وبالتدمير على الكافرين المعاندين، فلا ييأس المؤمن ؛ لأن عنده رسوخاً في إيمانه بأن المستقبل لهذا الدين.
فمعرفة هذه السنن تجعل المؤمن يرى حركة هذه السنن في الأمم الكافرة الممكنة وهي تتهاوى دولة بعد أخرى، ويوماً بعد آخر، وتحق عليها السنن، فيؤمن بأن الله تعالى سننه لا تتخلف ولا تبدل ولا تحابي ولا تجامل فيطمئن قلبه لوعد الله .
وقد قص الله علينا في كتابه أخبار أمم كثيرة، ممن استفادوا من هذه السنن، آمنوا بها وعرفوها وراقبوها ورصدوها، واغتنموا الانتفاع بها، فوهبهم الله تعالى النصر، والتمكين، والقوة، والسعادة في الدنيا وفي الآخرة، كما قص علينا قصص أمم أخرى جهلت هذه السنن، أو عرفتها ولكنها لم تعمل بموجبها، فحقت عليها كلمة العذاب، فلم ينقذهم بعد ذلك ما كانوا فيه من قوة ونصر حينما بدأت عوامل الانحراف وعوامل الضعف تعمل فيهم عملها.
وموافقة السنن الإلهية مما يمنح المسلم شعورا بالعزة ، لأن بعض الناس إذا رأوا قوة العدو ورأوا ضعف المسلمين، ربما داخلهم نوع من اليأس، حتى ربما يميل بعضهم إلى العزلة، لأنه رأى أمراً لم يكن يخطر له على بال، لكن تفطنه إلى السنن الإلهية يجعله يطمئن لوعد الله بأن العاقبة للمتقين.
4- في معرفة السنن والسير على هداها اجتماع للكلمة ووحدة للصف:
ففي معرفة السنن ما يعين المسلمين على الخروج من متاهة الاختلاف والنزاع والضعف والتشتت ؛ لأن كشف السنة التي تحكم أمرا من الأمور، سيجعل النظرة إلى هذا الأمر نظرة عليم خبير، وينقل التعامل معه من نطاق الفرضيات والنظريات القابلة للأخذ والرد والاختلاف إلى آفاق العلم الذي لا جدال فيه ولا اختلاف ﴿أَلَا يَعْلَمُ
مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ .
فيجمعهم هذا الأمر بعد تفرق، ويقويهم بعد ضعف، ويوحدهم بعد شتات، ويقيمهم بعد انحراف واعوجاج.
5- في معرفة السنن والسير على هداها تحقيق لمعنى الاستخلاف في الأرض:
فمعرفة السنن التي تؤدي لحدوث الظواهر سواء كانت مادية أو إنسانية، ما يفيدنا في التحكم بهذه الظواهر، بمعرفة شروطها وأحكامها وموانع حدوثها، ويجعلنا قادرين على تسخيرها لصالحنا والاستفادة منها وتوظيفها في تصريف شؤون حياتنا، مما ييسر لنا مهمة الاستخلاف في الأرض وبناء الحضارة.
6- في معرفة السنن ما يرسخ في المؤمنين تعظيم الله وحبه:
“إن معرفة هذه السنن الكونية التي تحكم حياة الإنسان، وحياة الناس، وحياة الأمم والجماعات والأفراد ؛ تدلك على شيء من عظيم صنع الله تعالى وبديع حكمته، فإذا اطلع المؤرخ مثلاً أو عالم الاجتماع، أو حتى الإنسان العادي، على آثار صنعة الله تعالى في حياة الأمم، وكيف حقت عليها كلمة الله، وكيف مضت عليها سنته، على غير ما يترقب الناس وعلى غير ما يتوقعون، فإنه يمتلئ إجلالاً وتوقيراً للواحد الأحد الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت، فيهتف قائلا كما قال الله عز وجل وأمر: ﴿ لِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ۖ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ۖ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)﴾.آل عمران
سبحانه ﴿ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)﴾الرحمن
من شأنه أن يعز أفراداً ويذل آخرين، ويرفع أقواماً ويضع آخرين، يغني هذا ويفقر ذاك، ويحيي هذا ويميت ذلك..
ولله در شاعر الإسلام محمد إقبال رحمه الله تعالي
لك في البرية حكمة ومشيئة * * * أعيت مذاهبها أولي الألباب
إن شئت أجريت الصحارى أنهرا * * * أو شئت فالأنهار موج سراب
ما ذا دهى الإسلام في أبنائه * * * حتى انطووا في محنة وعذاب
فثراؤهم قفر ودولة مجدهم * * * في الأرض نهب ثعالب وذئاب
عاقبتنا عدلا فهب لعدونا * * * عن ذنبه في الدهر يوم عقاب
ولما كان التعليم بالقول وحده من غير تطبيق على الواقع مما ينسى أو يقل الاعتبار به نبههم على هذا التطبيق في أنفسهم وأرشدهم إلى تطبيقه على أحوال الأمم الأخرى فقال تعالي:﴿ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)﴾آل عمران.
فجريان الأمور على السنن المطردة حجة على جميع الناس مؤمنهم وكافرهم، تقيهم وفاجرهم، وهي تدحض ما وقع للمشركين والمنافقين من الشبهة على الإسلام إذ قالوا: لو كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رسولا من عند الله لما نيل منه، فكأنه يقول لهم: إن سنن الله حاكمة على رسله وأنبيائه كما هي حاكمة على سائر خلقه.
فما من قائد عسكر يكون في الحالة التي كان عليها المسلمون في أحد، ويعمل معه ما عملوا إلا وينال منه؛ أي يخالفه جنده، ويتركون حماية الثغر الذي يؤتون من قبله، ويخلون بين عدوهم وبين ظهورهم وما يعبر عنه بخط الرجعة من مواقعهم والعدو مشرف عليهم إلا ويكونون عرضة للانكسار إذا هو كر عليهم من ورائهم، ولا سيما إذا كان ذلك بعد فشل وتنازع…
فما ذكر من أن لله تعالى سننا في الأمم هو بيان لجميع الناس لاستعداد كل عاقل لفهمه، واضطراره إلى قبول الحجة المؤلفة منه، إلا أن يترك النظر أو يكابر ويعاند.
7ـ حجية السنن :ـ
فهم العقلاء هذه الحجية للسنن الربانية، فاستدلوا بها وأقاموا من خلالها الحجة على أقوامهم؛ فمؤمن آل فرعون يقول لقومه ساحبًا حكم من سبق عليهم لتحققهم بصفاتهم: قال تعالي ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ۚ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۗ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) ﴾(غافر ).
فالذي يتأمل هذه الآيات الكريمة يجد كيف استدل مؤمن آل فرعون بالسنن التي مضت في الأمم السابقة، (مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم).
«وحقيقة السنن التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين، وعلى أساس هذا يكون الاستدلال بالسنة.
يقول ابن تيمية رحمه الله: وحقيقة الاستدلال بسنته وعادته هو اعتبار الشيء بنظيره، وهو التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين، وهو الاعتبار المأمور به في القرآن كقوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأبْصَارِ (13) ﴾(آل عمران )
وقوله عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ(2)﴾(الحشر ).
وإنما تكون العبرة بالقياس والتمثيل، فإذا عرفت قصص الأنبياء ومن اتبعهم ومن كذبهم وأن متبعيهم كان لهم النجاة والعاقبة والنصر والسعادة، ولمكذبيهم الهلاك والبوار جعل الأمر في المستقبل مثلما كان في الماضي، فعلم أن من صدقهم كان سعيدا، ومن كذبهم كان شقيا، وهذه سنة الله وعادته، ولهذا يقول الله في تحقيق عادته وسننه وأنه لا ينقضها ولا يبدلها: ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) ﴾(القمر ).
هذا تطبيق الاعتبار والقياس، ثم قال: (أم لكم براءة في الزبر، فنفى الدليل العقلي والسمعي فيقول: فإذا لم يكونوا خيرا منهم فكيف ينجو من العذاب مع مماثلتهم لهم؟)
وهكذا يتضح أن السنن قطعية الدلالة على مرادها؛ لأنها لو لم تكن كذلك لما كانت مطردة سارية على الجميع.