طالع ما سبق نشره :
(1)
(2)

(3)


 
بقلم : الشيخ عبد الله علوان

 

الفصل الرابع - أسباب الانحراف عند الأولاد ومعالجته


الفقر الذي يخيم على بعض البيوت
تمهيد
ما أكثر العوامل والأسباب التي تؤدي إلى انحراف الأولاد، وإلى زيغهم وفساد أخلاقهم، وسوء تربيتهم في هذا المجتمع الآثم، والواقع المرير، والحياة الماجنة!!
وما أكثر نوازع الشر، وبواعث الفساد التي تحيط بهم وتكتنفهم من كل جانب، وتعترضهم من كل مكان!!..
فإذا لم يكن المربون على مستوى المسؤولية والأمانة، وعلى علم بأسباب الانحراف وبواعثه، وعلى بصيرة وهدى في الأخذ بأسباب العلاج، وطرق الوقاية... فإن الأولاد – لا شك – سيكونون في المجتمع جيل الضياع والشقاء، وعصبة الفساد والجريمة.
ونحن – إن شاء الله – في هذا الفصل سنفصّل القول عن أسباب الانحراف في الأولاد، وعن المعالجة الناجعة لهذا الانحراف، ليعلم من يريد أن يعلم أن الإسلام – بتشريعه الحكيم، ومبادئه القويمة الخالدة – قد وضع الأسس الكفيلة، والمناهج الحكيمة لصيانة الجيل من الانحراف، وحماية المجتمع من التشرد والضياع.
وإليكم – أيها المربون – أهم الأسباب في انحراف الأولاد، وآظهر المعالجات لهذا الانحراف على ضوء الإسلام، لتكونوا على بينة وهدى في أمر التربية والمسؤولية:
أ) الفقر الذي يخيم على بعض البيوت:
من المعلوم أن الطفل حين لا يجد في البيت ما يكفيه من غذاء وكساء، ولا يرى من يعطيه ما يستعين به على بلغة العيش، وأسباب الحياة، وينظر إلى ما حوله فيجد الفقر والجهد والحرمان.. فإنه – لا شك – سيلجأ إلى مغادرة البيت بحثاً عن الأسباب، وسعياً وراء الرزق. فتتلقفه أيدي السوء والجريمة، وتحيط به هالة الشر والانحراف، فينشأ في المجتمع مجرماً، ويكون خطراً على الأنفس والأموال والأعراض.
والإسلام بتشريعه العادل، قد وضع الأسس الكفيلة لمحاربة الفقر، وقرر حق الحياة الكريمة لكل إنسان، ووضع من التشريعات ما يؤمن لكل فرد الحد الأدنى من مسكن ومطعم وكساء، ورسم للمجتمع المسلم مناهج عملية للقضاء على الفقر نهائيّاً، كتأمين سبل العمل لكل مواطن، وإعطاء مرتبات شهرية من بيت المال لكل عاجز، وسن قوانين للتعويض العائلي لكل أب له أسرة وأولاد، ورعاية زمر اليتامى، والأرامل والشيوخ، بشكل يحفظ لهم كرامتهم الإنسانية، ويحقق لهم العيش الأفضل.. إلى غير ذلك من هذه الوسائل والأحكام، التي إن تحققت، ومرت بمراحل التطبيق والتنفيذ، زال في المجتمع أهم أسباب الجريمة والتشرد والضياع، وقضى نهائيّاً على كل مظاهر الفقر والبؤس والحرمان[1].
[1] ارجع إلى كتابنا (التكافل الاجتماعي في الإسلام) تجد فيه ما يشفي الغليل في قضاء الإسلام على الجهل والفقر والمرض. وترى فيه كيف حقق الإسلام العدالة الاجتماعية بين أبناء الوطن الواحد.
النزاع والشقاق بين الآباء والأمهات
من العوامل الأساسية التي تؤدي إلى انحراف الولد، احتدام النزاع، واستمرار الشقاق ما بين الأب والأم في أعظم ساعات الاجتماع واللقاء... فالولد حين يفتح في البيت عينيه، ويرى ظاهرة الخصومة أمام ناظريه، سيترك حتماً جو البيت القاتم، ويهرب عن محيط الأسرة الموبوء، ليفتش عن رفاق يقضي معهم جُلَّ وقته ويصرف في مخالطتهم معظم فراغه. فهؤلاء إن كانوا قرناء سوء، ورفقاء شر، فإنه سيدرج معهم على الانحراف، ويتدنَّى بهم إلى أرذل الأخلاق، وأقبح العادات، بل إن انحرافه سيتأكد، وإن إجرامه سيتحقق، ليصبح أداة خطر وبلاء على البلاد والعباد.
والإسلام بمبادئه الحكيمة الخالدة رسم للخاطب المنهج القويم في حسن اختيار الزوجة، كما رسم لأولياء المخطوبة الطريق الأفضل في حسن اختيار الزوج، وما ذاك إلا تحقيق للمودة والمحبة والتفاهم والتعاون بين الزوجين، ثم بالتالي بُعدٌ عن كل احتمال للمشكلات العائلية، والخصومات الزوجية التي تقع عادة ما بين المرأة وزوجها.
وقد سبق أن بيّنا في الفصل الأول من هذا الكتاب الأسس الصحيحة في اختيار الزوج أو الزوجة. وهي لا شك من أعظم الأسس الثابتة في إعداد البيت السعيد، وتهيئة الأسرة المثالية المتحابية المتفاهمة.
حالات الطلاق وما يصحبها من فقر
ومن العوامل الأساسية التي تؤدي غالباً إلى انحراف الولد، حالات الطلاق وما يصحبها من تشرد وضياع، وما يعقبها من تشتت وفراق.
ومن الأمور المعلومة التي لا يختلف فيها اثنان، أن الولد عندما يفتح على الدنيا عينيه، ولا يجد الأم التي تحنو عليه، ولا الأب الذي يقوم على أمره ويرعاه، فإنه لا شك سيندفع نحو الجريمة، ويتربَّى على الفساد والانحراف.
ومما يزيد الأمر سوءاً، زواج المطلقة من زوج آخر، فإن الأولاد سيؤولون – على الغالب – إلى التشرد والضياع.
ومما يعقّد المشكلة كذلك، فقر الأم بعد الطلاق، فإنها في هذه الحالة ستضطر إلى العمل خارج المنزل، ومعنى هذا أن تترك البيت، أو بالأحرى أن تترك الأولاد الصغار للشارع تعبث بهم فتن الأيام، وحادثات الليالي، من غير رعاية ولا عناية. وماذا نرجو من أولاد لا يجدون عطف الأب ولا اهتمامه ومسؤوليته، ولا حنان الأم ولا عنايتها ومسؤوليتها؟!
وماذا نرجو منهم حين ينظرون إلى ما حولهم، فلا يجدون الطعام الكافي الذي يسد جوعهم، ولا الكساء الواقي الذي يستر عورتهم، ولا المسكن الصالح الذي يحقق لهم راحتهم ويحفظ صحتهم؟!.
فالحقيقة أننا لا نرجو منهم إلا التشرد والضياع، ولا نتوقع إلا الجريمة والانحراف، إلا من رحم ربك وقليل ما هم.
والإسلام بمبادئه الرشيدة أمر كلاًّ من الزوجين، أن يقوما بالحقوق نحو بعضهما البعض، حتى لا يؤول بهما الأمر إلى نتائج لا تحمد عقباها..
• فمن هذه الحقوق: طاعة الزوجة لزوجها بالمعروف. فقد روى البزار والطبراني: أن نسوة اجتمعن مرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأرسلن إحداهن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لتقول له: يا رسول الله أنا وافدة من النساء إليك، هذا الجهاد كتبه الله على الرجال، فإن يصيبوا أثيبوا، وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون، ونحن معشر النساء نقوم عليهم فمالنا من ذلك الأجر؟ فأجابها عليه الصلاة والسلام بقوله: "أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة للزوج، واعترافاً بحقه، يعدل ذلك (أي يعدل أجر المجاهدين في سبيل الله)، وقليل منكن من يفعله".
• ومن هذه الحقوق: أن تحفظ الزوجة للزوج ماله ونفسها. لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن ماجة: "ألا أخبركم بخير ما يكنز الرجل؟ المرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته بماله ونفسها".
• ومن هذه الحقوق: عدم امتناعها عن فراش زوجها إذا طلبها إليه. لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: "إذا دعا رجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء إليه، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح".
• ومن هذه الحقوق: قيام الزوج بواجب النفقة على الزوجة والأولاد لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}. البقرة: 233. وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم: "اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف".
• ومن هذه الحقوق: استشارة الزوج زوجته في أمور البيت. لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد وأبو داود: "آمروا النساء في بناتهن"، أي استأذنوهن في البنات قبل أن يخطبن.
• ومن هذه الحقوق: أن يغض الزوج طرفه عن بعض نقائص زوجته ولا سيما إن كان لها محاسن ومكارم تغطي هذا النقص. لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم: "لا يفرك (أي لا يبغض) مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً، رضي منها آخر".
• ومن هذه الحقوق: معاشرة الزوج لزوجته بالمعروف وملاطفتها والمزاح معها. لقوله تبارك وتعالى: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً} النساء: 18.
- ولقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن ماجة والحاكم: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".
- وروى البخاري ومسلم: "أنه عليه الصلاة والسلام كان يُري السيدة عائشة – رضي الله عنها – اللعب في باحة المسجد، فيضع كفه على الباب، ويمد يده وتضع وجهها على كتفه"، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله".
- وروى أبو داود والنسائي: "أنه عليه الصلاة والسلام كان يسابق السيدة عائشة – رضي الله عنها – فسبقته مرة، وسبقها في بعض الأيام، فقال: هذه بتلك". وكان مما يقوله عمر رضي الله عنه – وهو القوي الشديد الجاد في حكمه وعدله - : (ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي – أي في الإنس والسهولة – فإذا كان في القوم كان رجلاً).
• ومن هذه الحقوق: مساعدة زوجته في أعمال المنزل اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. روى الطبراني وغيره عن عائشة رضي الله عنها، أنها لما سُئلت: ماذا كان يصنع الرسول صلى الله عليه وسلم في البيت؟ قالت: (كما يصنع أحدكم، يشيل هذا، ويحط هذا، ويخدم في مهنة أهله، ويقطع لهن اللحم، ويقمُّ البيت – أي يكنسه – ويعين الخادم في خدمته).
تلكم أهم الحقوق التي أوجبها الإسلام على كلٍ من الزوجين، وهي حقوق واقعية وعادلة، عندما ينفذها كل من الزوج والزوجة يحل الوفاق محل الفرقة، وتتحقق المحبة محل الكراهية، وتعيش الأسرة بأكملها على أحسن ما تعيش من السعادة والتفاهم والاستقرار، ولا يمكن أن يحدث ما يعكر صفو الأسرة، ولا ما يسيء أحدهما إلى الآخر.
وفي حال تعذر الوفاق لسوء خلق الزوج، أو سوء خلق الزوجة، ولا يمكن بحال أن تحقق المعيشة بينهم، فعلى الزوج أن يأخذ بالاحتياطات الكاملة قبل إيقاع الطلاق. وهذه الاحتياطات مرتبة كما يلي:
1- الوعظ والإرشاد: من باب وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
2- الهجر في المضجع: وهي عقوبة نفسية، لعل المرأة تعود إلى صوابها.
3- الضرب غير المبرّح: إذا كان باعتقاده أنه ينفع، ويشترط فيه أن لا يكون شديداً، ثم بالتالي ألا يترك أثراً في جسم المرأة، ويشترط كذلك أن لا يكون الضرب في مواضع مؤذية كالوجه والصدر والبطن. وهو بهذه الشروط إلى التهديد أقرب منه إلى الإيلام والإيذاء. علماً بأن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو القدوة الصالحة لم يضرب امرأة قط. فقد روى ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط، ولا خادماً، ولا ضرب شيئاً قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله).
ويروي ابن سعد: عندما شكت للنبي صلى الله عليه وسلم امرأةٌ ضرْبَ زوجها، قال للزوج: (يظل أحدكم يضرب امرأته ضرب العبد، ثم يظل يعانقها ولا يستحي).
4- وأخيراً اللجوء إلى التحكيم: وذلك بتدخل وسطاء عقلاء من أهله وأهلها، يدرسون المشكلات القائمة بين الزوجين، ويقترحون الحلول العملية لإعادة الوفاق والتفاهم بينهما، لعلها تُجدي قبل وقوع الطلاق.
وهذه الاحتياطات لازمة، عملاً بقوله تبارك وتعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً، إن الله كان علياً كبيراً، وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما، إن الله كان عليماً خبيراً} النساء: 34-35.
وفي حال تعذر الوفاق بعد الأخذ بهذه المراحل، يطلقها تطليقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، لإتاحة الفرصة في إعادة الحياة الزوجية بعد التطليقة الأولى، لقوله تبارك وتعالى: {فإن طلقها فلا جناح عليهما، أن يتراجعا، إن ظنا أن يقيما حدود الله، وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون} البقرة: 230.
فيتبين مما ذكرناه أن الإسلام اتخذ من الاحتياطات اللازمة ما يحول دون وقوع الطلاق، لما يترتب عليه من نتائج وخيمة على الزوج والزوجة والأولاد.
فلا عجب أن يعدَّه عليه الصلاة والسلام من أبغض الحلال إلى الله، للحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة "أبغض الحلال إلى الله الطلاق".
وفي حال وقوع الطلاق أوجب الإسلام على الزوج المتعة، ونفقة العدة، ونفقة الأولاد حتى لا تشقى المطلقة، ولا يشقى معها أولادها، لقوله سبحانه: {ومتعوهن على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين} البقرة: 236.
وفي حال فقر الزوج، وعدم مقدرته على النفقة، يتعين على الدولة أن ترعى هؤلاء الأطفال بالنفقة، وتمدهم بكل ما يحتاجون إليه من أسباب مادية لتعليمهم والإنفاق عليهم، إلى أن يكبروا ويشبوا، وبذلك تمنع عنهم أسباب شقاوتهم وانحرافهم... هذا عدا ما يوجبه الإسلام على من يعلم بأحوالهم من تقديم العون والمؤازرة والتكافل، تحقيقاً لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم: "من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له".
وقوله فيما رواه الطبراني وابن ماجة: "في المال حق سوى الزكاة".
وقوله فيما رواه الطبراني: "إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً، ويعذبهم عذاباً أليماً". وقوله فيما رواه البزار والطبراني: "ما آمن بي من بات شبعان، وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به".
الفراغ الذي يتحكم في الأطفال والمراهقين
ومن العوامل الأساسية التي تؤدي غالباً إلى انحراف الولد، عدم الاستفادة من الفراغ الذي يتحكم في الأحداث والمراهقين. ومن المعلوم أن الولد منذ نشأته مولع باللعب، ميال إلى المغامرة، محب للفسحة والتمتع بالمناظر الطبيعية، فنراه في حركة دائمة، في اللعب مع من كان في سنه حيناص، وفي الركض والتسلق أحياناً، وفي ممارسة الرياضة تارة، وفي اللعب بألعاب الكرة تارة أخرى.
فيجب على المربين أن يستغلوا هذه الظاهرة في الأطفال، ومن كان في سن المراهقة، حتى يملؤوا فراغهم بما يعود على أجسامهم بالصحة، وعلى عضلاتهم بالقوة، وعلى أجهزة أبدانهم بالنشاط والحيوية.
فإن لم ييسروا لهم أماكن للعب واللهو البريء، ونوادي صالحة للرياضة وإعداد القوة، ومسابح للتدريب والتعليم، ونزهات للنشاط والحيوية، فإنهم سيختلطون غالباً بقرناء سوء، ورفقاء شر وفساد، ويؤدي حتماً إلى شقائهم وانحرافهم.
والإسلام بتوجيهاته السامية، عالج الفراغ لدى الأطفال والمراهقين بوسائل عملية تصحح لهم أجسامهم، وتقوى أبدانهم، وتكسبهم قوة وحيوية ونشاطاً.
فمن أعظم هذه الوسائل تعويدهم على العبادات ولا سيما الصلاة التي عدها الإسلام عمود الدين، وقوامه، وركنه الأساسي، لما لها من الفوائد الروحية، والمنافع الجسمية، والآثار الخلقية والنفسية.
ولا بأس أن نعدد باختصار فوائد الصلاة الجسمية ليعرف من يريد أن يعرف أهميتها ووجه مشروعيتها:
• كونها رياضة إلزامية يحرك فيها المسلم جميع أعضائه ومفاصله، ولا يخفى ما في هذه الحركات من تنشيط للعضلات، والدورة الدموية، وجميع أجزاء البدن.
• كونها نظافة إجبارية لما يسبق الصلاة من أفعال الوضوء، وهل الوضوء إلا نظافة الأعضاء الظاهرة، وتنظيف الشعر، والفم والأنف، والأسنان؟!.. هذا عدا الغسل في وقت وجوبه واستحبابه، وعدا طهارة البدن والثوب والمكان.
وهذه كلها شروط لصحة الصلاة.
• كونها تدريباً على المشي، وذلك في السير إلى المساجد خمس مرات في اليوم والليلة، ولا يخفى ما في حركات المشي ذهاباً وإياباً من تنشيط البدن، ومطردة للخمول والكسل.
وكما سمعنا من الأطباء أن الجسم إذا تحرك بالمشي أو الرياضة بعد الطعام لا يصاب بأمراض المعدة وعسر الهضم، وغيرها من الأسقام والآفات.
فلا عجب أن نسمع ممن لا ينطق عن الهوى، في حضه الآباء والمربين علىأن يأمروا أولادهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين حتى يعتادوها، ويقضوا أوقات فراغهم في تعلمها والتدريب عليها.
واسمعوا إلى ما يقوله عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى فيما رواه الحاكم وأبو داود: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع".
هذا عدا عما يقضيه الولد وقت فراغه من تعلم لكيفية الصلاة وأفعالها، وقراءتها، وعدد ركعاتها، وفرائضها، وسننها، وآدابها، سواء في البيت على يد مربيه، أو في المسجد على يد معلّميه.
ومن هذه الوسائل العملية التي وجه إليها الإسلام في معالجة الفراغ لدى الأولاد:
أمره بالتعليم لفنون الحرب، والفروسية، والسباحة، والقفز والمصارعة.
وتوجيهه الولد في إشغال فراغه بالمطالعة الهادفة، والنزهة البريئة، والرياضة المتنوعة، وذلك لا يتأتّى إلا بافتتاح الملاعب الكبيرة، والنوادي الضخمة، والمكتبات الشهيرة، والمؤسسات العامة، والمسابح الصحية الملائمة بشرط أن تكون متوافقة مع أحكام الإسلام، وآدابه السامية.
وإليكم طائفة من توجيهات الإسلام في إعداد هذه الوسائل:
قال تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ومن رباط الخيل ترهبون به عدوَّ الله وعدوكم} الأنفال: 60.
وقال تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} الزمر: 09.
ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنها: "علموا أولادكم الرماية والسباحة، ومروهم أن يثبوا على الخيل وثباً".
- وروى الحاكم والبيهقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك".
- وروى النسائي والترمذي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "... وارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إليَّ من أن تركبوا".
- وروى الطبراني والحاكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل شيء ليس من ذكر الله فهو لغو، أو لهو، أوسهو، إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين[1]، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعلُّمه السباحة".
- وروى ابن إسحاق وابن هشام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رحم الله امرءاً أراهم من نفسه قوة".
- وروى البخاري ومسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال للحبشة حينما أخذوا يلعبون بحرابهم في المسجد: "دونكم يا بني إرْفِدة، لتعلم اليهود أن في ديننا فسحة".
- وروى مسلم عنه عليه الصلاة والسلام: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير... احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان". إلى غير ذلك من هذه التوجيهات القيمة السامية. ولو أخذ المربون بهذه التوجيهات الإسلامية، لأكسبوا أولادهم صحة وعلماً وقوة، ولحالوا بينهم وبين تفلتهم وتشردهم وانحرافهم، ولملأوا فراغهم بما ينفعهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم، ولأعدوهم ليكونوا جيل الإسلام، وجنوده المغاوير، ودعاته الراشدين، وشبابه العاملين.
[1] بين الغرضين: أي الهدفين وذلك في حالة الرمي.
الخلطة الفاسدة ورفاق السوء
ومن العوامل الكبيرة التي تؤدي إلى انحراف الولد، رفاق السوء والخلطة الفاسدة، ولا سيما إن كان الولد بليد الذكاء، ضعيف العقيدة، متميع الخلق فسرعان ما يتأثر بمصاحبة الأشرار، ومرافقة الفجار، وسرعان ما يكتسب منهم أحط العادات، وأقبح الأخلاق. بل يسير معهم في طريق الشقاوة بخُطى سريعة، حتى يصبح الإجرام طبعاً من طباعهم، والانحراف عادة متأصلة من عاداتهم، ويصعب بعد ذلك ردّه إلى الجادة المستقيمة، وإنقاذه من وهدة الضلال، وهوّة الشقاء.
والإسلام بتعاليمه التربوية وجّه الآباء والمربين إلى أن يراقبوا أولادهم مراقبة تامة، وخاصة في سن التمييز والمراهقة، ليعرفوا من يخالطون ويصاحبون، وإلى أين يغدون ويروحون؟ وإلى أي الأماكن يذهبون ويرتادون؟
كما وجههم أن يختاروا لهم الرفقة الصالحة، ليكتسبوا منهم كل خُلق كريم، وأدب رفيع، وعادة فاضلة.
كما وجههم أن يحذروهم من خُلطاء الشر، ورفاق السوء، حتى لا يقعدوا في حبائل غيهم، وشباك ضلالهم وانحرافهم.
وإليكم توجيهات الإسلام وتحذيراته من قرناء الشر، ورفاق السوء والفساد:
- قال تعالى: {ويوم يَعَضُّ الظالمُ على يدَيْه، يقول: يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلاً، ياوليتا ليتني لم أتخذْ فلاناً خليلاً، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني، وكان الشيطانُ للإنسان خذولاً} الفرقان: 28-30.
- وقال أيضاً: {قال قرينه: ربنا ما أطغيتُه، ولكن كان في ضلال بعيد} ق: 27.
- وقال كذلك: {الأخِلاَّءُ يومئذ بعضهم لبعض عدو، إلا المتقين} الزخرف: 67.
- وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل".
- وقال أيضاً فيما رواه البخاري ومسلم: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل حامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك[1]، أو تشتري منه، أو تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، أو تجد منه ريحاً منتنة".
- وقال كذلك فيما رواه الترمذي: "المرء مع من أحب، وله ما اكتسب".
- وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن عساكر: "إياك وقرين السوء فإنك به تُعرف". فما أجدر الآباء والمربين أن يأخذوا بهذه التوجيهات الكريمة، حتى تنصلح أحوال أولادهم، وتسْموا أخلاقهم، ويظهر في المجتمع أدبهم، وحتى يكونوا في الأمة أداة خير، ورسل إصلاح، ودعاة هداية، فينصلح المجتمع بصلاحهم، وتفتخر الأمة بكريم فعالهم، وجميل صفاتهم.
[1] يحذيك: يعطيك.
سوء معاملة الأبوين للولد
من الأمور التي يكاد يجمع علماء التربية عليها، أو الولد إذا عومل من قبل أبويه ومربيه المعاملة القاسية، وأُدِّب من قِبلهم بالضرب الشديد، والتوبيخ القارع، وكان دائماً الهدف في التحقير والازدراء، والتشهير والسخرية، فإن ردود الفعل ستظهر في سلوكه وخلُقه، وإن ظاهرة الخوف والانكماش ستبدو في تصرفاته وأفعاله. وقد يؤول به الأمر إلى الانتحار حيناً، أو إلى مقاتلة أبويه أحياناً، أو إلى ترك البيت نهائياً، تخلصاً مما يعانيه من القسوة الظالمة، والمعاملة الأليمة.
فلا عجب – وهذه حاله – أن نراه أصبح في المجتمع مجرماً، وفي هذه الحياة شاذاً ومنحرفاً!! ولا عجب أن ينشأ على الاعوجاج والميوعة والانحلال!!.
والإسلام بتعاليمه القويمة الخالدة، يأمر كل من كان في عنقه مسؤولية التوجيه والتربية، ولا سيما الآباء والأمهات منهم، يأمرهم جميعاً بأن يتخلّوا بالأخلاق العالية، والملاطفة الرصينة، والمعاملة الرحيمة، حتى ينشأ الأولاد على الاستقامة، ويتربوا على الجرأة واستقلال الشخصية، وبالتالي حتى يشعروا أنهم ذوو تقدير واحترام وكرامة.
وإليكم توجيهات الإسلام في الأخلاق العالية، والمعاملة الرحيمة، والمسايرة اللطيفة:
قال الله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى} النحل: 90.
وقال سبحانه: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} آل عمران: 143.
وقال كذلك: {وقولوا للناس حسناً} البقرة: 43.
وقال أيضاً: {ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضُّوا من حولك}. آل عمران: 159.
- وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله".
- وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والبيهقي: "إن أراد الله تعالى بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق، وإن الرفق لو كان خَلْقاً لما رأى الناس خَلْقاً أحسن منه، وإن العنف لو كان خَلْقاً لما رأى الناس خَلْقاً أقبح منه".
وروى أبو الشيخ في الثواب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رحم الله والداً أعان ولده على بره".
وروى أبو داود والترمذي عنه عليه الصلاة والسلام: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
تلكم أهم التوجيهات الإسلامية في لين الجانب، وحسن القول، وفضيلة المعاملة. فما على الآباء والأمهات إلا أن يأخذوا بها، وينفذوا ما جاء فيها، ويعملوا بمقتضى هديها وإرشادها، إن أرادوا لأولادهم الحياة الفاضلة، والاستقامة الدائمة، والخلق الاجتماعي النبيل.
أما أن يسلكوا معهم الطرق الملتوية، والمعاملة الفظة القاسية، والعقوبة الظالمة الشديدة، فيكونون قد جنوا على أبنائهم حين يقذفون بهم إلى الحياة في جو هذه التربية الخاطئة، والتوجيه الملتوي الذميم، بل سيرون حتماً انحرافهم أو عقوقهم أوتمردهم، لأنهم هم الذين غرسوا في نفوسهم – وهم صغار – بذور هذا الانحراف أو العقوق أو التمرد.
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو إليه عقوق ابنه، فأحضر عمر الولد وأنّبه على عقوقه لأبيه، ونسيانه لحقوقه، فقال الولد: يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوق على أبيه؟ قال: بلى. قال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: أن ينتقي أمه، ويحسن اسمه، ويعمله الكتاب (أي القرآن). قال الولد: يا أمير المؤمنين إن أبي لم يفعل شيئاً من ذلك، أما أمي فإنها زنجية كانت لمجوسي، وقد سماني جُعلاً (أي خنفساء)، ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً.
فالتفت عمر إلى الرجل وقال له: جئت إليّ تشكو عقوق ابنك، وقد عَققْتهُ قبل أن يعقّك، وأسأت إليه قبل أن يُسيء إليك؟!.
وهكذا حمَّل عمر الرجل حن أهمل تربية ابنه مسؤولية عقوق ولده له.
ومما يذكر في كتب السِّيَر: أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، غضب على ابنه يزيد مرة، فأرسل إلى الأحنف بن قيس ليسأله عن رأيه في البنين فقال: (هم ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، فإنهم يمنحونك ودّهم، ويَحْبونَك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلاً فيملوا حياتك، ويتمنوا وفاتك).
ألا فليأخذ الآباء من هذين الخبرين العظة والعبرة في الملاطفة لأولادهم، وحسن المعاملة لهم، والرفق بهم، واتباع الطريق الأقوم في تربيتهم وتوجيههم.
مشاهدتهم أفلام الجريمة والجنس
ومن العوامل الكبيرة التي تؤدي إلى انحراف الولد، وتدفعه إلى الشقاوة وارتكاب الجريمة، والسير وراء الميوعة والانحلال، ما يشاهده في دور السينما، وعلى شاشة الرائي (التلفزيون) من روايات بوليسية، وأفلام خلاعية، وما يقرؤه من مجلات ماجنة وقصص مثيرة، وهي بجملتها ومضمونها تتَّجر بالغرائز، وتشجع على الانحراف والإجرام، وهي كذلك تفسد أخلاق الكبار، فكيف بالمراهقين، والأطفال الصغار؟!
ومن المعلوم بداهة أن الولد حين يعقل تنطبع في ذهنه هذه الصور، وتتأصل في مخيلته هذه المشاهد، فيعمد حتماً إلى محاكاتها وتقليدها.. وليس أضر على الولد المراهق من مشاهد تشجع على الإجرام، وتوجه نحو الرذيلة والفساد.
ولا سيما إن كان مفلوت الزمام، متروك الرقابة والرعاية.
ومما لا يختلف فيه اثنان، أن لمثل هذه الأجواء الفاسدة، والمشاهد الآثمة أثراً بالغاً في نفوس الأطفال والمراهقين، بحيث لا ينفع معه نصح الآباء أو توجيه المربين والمعلمين.
والإسلام بمبادئه التربوية، يضع أمام الآباء والمربين والمسؤولين، المنهج القويم في توجيه الأبناء وتربيتهم، والقيام بواجبهم وحقهم.
• فمن مبادئ هذا المنهج: الوقاية الكاملة من كل ما يسبب لهم ولأنفسهم غضب الجبار، ودخول جهنم، امتثالاً بقوله تبارك وتعالى:
{يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً...} التحريم: 06.
• ومن مبادئ هذا المنهج: استشعار المسؤولية نحو من لهم حق التوجيه والتربية، ليقوموا بأداء المهمة والأمانة على أكمل وجه، وأنبل معنى، تحقيقاً لقوله عليه الصلاة والسلام: "الرجل راعٍ في أهل بيته ومسؤول عن رعيته" رواه البخاري ومسلم.
• ومن مبادئ هذا المنهج: إزالة الضرر عن كل ما يؤدي إلى انحراف عقيدتهم وأخلاقهم، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام مالك وابن ماجة: "لا ضرر ولا ضرار" فبناء على هذه المبادئ الإسلامية، والمناهج التربوية، وجب على كل أب ومربٍّ ومسؤول، أن يمنعوا الأولاد من مشاهدة الأفلام الجنسية والبوليسية. وأن يمنعوهم كذلك من شراء المجلات الخلاعية، واقتناء القصص الغرامية، ومطالعة الكتب الإلحادية.. وبالاختصار وجب منعهم من كل ما يضر بعقيدتهم، ويدفعهم نحو الرذيلة والإجرام.
وإن شاء الله حين نتكلم عن مسؤولية التربية الإيمانية، ومسؤولية التربية الخلقية في الجزء الثاني من كتاب (تربية الأولاد في الإسلام)، فسوف نفصّل القول في المبادئ التي وضعها الإسلام في تربية الولد عقيدة وخلقاً، ليعلم من يريد أن يعلم أن الإسلام هو دين الحياة، ودين الفطرة، ودين الإصلاح والتوجيه والتربية.
{ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} المائدة: 50.
انتشار البطالة في المجتمع
ومن العوامل الأساسية التي تؤدي إلى انحراف الولد، انتشار البطالة بين أفراد الأمة، وطبقات المجتمع.. فالأب الذي له زوجة وأولاد، ولم تتيسر له سبل العمل، ولم تتأمن له طرائق الكسب، ولم يجد من المال ما يسد به جوعته، وجوعة أهله وأولاده، ويؤمن لهم حاجاتهم الضرورية، ومطالبهم الحيوية، فإن الأسرة بأفرادها ستتعرض للتشرد والضياع، وإن الأولاد سيدرجون نحو الانحراف والإجرام، وربما فكر رب الأسرة مع من يقوم بأمرهم من أهل وولد، أن يحصلوا على المال عن طريق حرام، ويجمعوه من وسائل غير مشروعة كالسرقة، والاغتصاب، والرشوة.. ومعنى هذا أن المجتمع حلت فيه الفوضى، وأصيب بالدمار والانهيار.
والإسلام بِسَنّه مبادئ العدالة الاجتماعية، ورعاية حق الفرد والمجتمع. قد عالج البطالة بأنواعها، سواء كانت بطالة مضطر، أو بطالة كسول.
أما علاجه لبطالة المضطر الذي لا حيلة له في إيجاد العمل مع رغبته فيه، وقدرته عليه فيتحقق بشيئين:
أ‌) وجوب تكفل الدولة له في تأمين سبل العمل.
ب‌) وجوب مساعدة المجتمع له حتى يجد سبيل العمل.
أما وجوب تكفل الدولة له: فلما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، حِلْسٌ (كساء غليظ) نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقَعْبٌ (إناء) نشرب فيه الماء، قال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري، وقال: اشترِ بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوماً فأتني به.. فأتاه به فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده، ثم قال: اذهب واحتطب وبع، ولا أرينّك خمسة عشر يوماً، ففعل، فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً، وببعضها طعاماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا خير لك من أن تجيء، والمسألة نكتة في وجهك يوم القيامة).
أما وجوب مساعدة المجتمع له حتى يجد سبيل العمل: فلما روى مسلم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان معه فضل ظهر فليعُدْ به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على مَنْ لا زاد له".
ولما روى البزار والطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما آمن بي مَنْ بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به".
وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "أيما رجل مات ضياعاً بين أقوام أغنياء، فقد برئت منهم ذمة الله، وذمة رسوله".
وجاء في كتاب الاختيار لتعليل المختار ما نصه: (وإن أطعمه أحد أعطاه شيئاً سقط إثمه عن الباقين).
أما علاجه لبطالة الكسول الذي يكره العمل مع وجوده وقدرته عليه: فيكون بمراقبة الدولة له، فإن شعرت به أنه قصر عن العمل وقعد عنه، نصحته إلى ما فيه خيره ومنفعته، فإن أبى ساقته بالقوة إليه، وألزمته به. فقد روى ابن الجوزي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه لقي قوماً لا يعملون، فقال: ما أنتم؟ قالوا: متوكلون، فقال: "كذبتم!.. إنما المتوكل رجل ألقى حبة في الأرض ثم توكل على الله"، وقال: "لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة". وهو الذي نهى الفقراء أن يقعدوا عن العمل اتكالاً على الصدقات فكان من قوله لهم: "يا معشر الفقراء استبقوا الخيرات، ولا تكونوا عيالاً على المسلمين".
والذي يفهم من كلام عمر رضي الله عنه وتوجيهه: أن الزكاة في الإسلام لا تعطى إلا لسد الحاجة وتأمين سبل العمل، حتى لا تكون مدعاة للكسل، وسبباً للقعود والتواكل.
أما إن كان العجز أو الشيخوخة أو المرض سبباً للبطالة، فعلى الدولة أن ترعى حق هؤلاء، وتؤمّن لهم سبيل العيش الأفضل، وطريق الكفالة الحقة، بغضِّ النظر عن كون العاجز أو الكبير أو المريض مسلماً أو غير مسلم.
ومما يدل على هذا ما رواه أبو يوسف في كتاب الخراج: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر على باب قوم وعليه سائل يسأل، وكان شيخاً كبيراً ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية، والحاجة، والسن، فأخذه عمر إلى منزله، فرضخ له بشيء (أي أعطاه شيئاً) من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال له: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه، إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم، إنما الصدقات للفقراء والمساكين، وهذا من مساكين أهل الكتاب.
ومما فعله عمر رضي الله عنه أنّه مرعلى قوم من النصارى قد أصيبوا بمرض الجذام فأمر لهم بعطاء من بيت المال، يحقق لهم تكافلهم، ويؤمن علاجهم، ويحفظ كرامتهم.
هذه هي معالجة الإسلام للبطالة، وهي – كما رأيت – معالجة رحيمة وحكيمة وعادلة، وهذا يدل دلالة لا غموض فيها، أن الإسلام دين الرحمة والإنسانية والعدالة، أنزله الله سبحانه ليكون الإشعاع الهادي للبشرية، والمنارة المتلألئة في ظلمات الحياة.. فما أحرى الجاهل لهذه الحقائق أن يعرف ما هو الإسلام؟ وأن يعلم لماذا أرسل الله سبحانه محمداً هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
تخلي الأبوين عن تربية الولد
ومن العوامل الكبرى التي تؤدي إلى انحراف الولد، وإلى فساد خلقه، وانحلال شخصيته: تخلي الأبوين عن إصلاح نفسه، وإنشغالهما عن توجيهه وتربيته. وعلينا أن لا نغفل دور الأم في حمل الأمانة، والقيام بواجب المسؤولية تجاه من ترعاهم وتقوم على تربيتهم، وتشرف على إعدادهم وتوجيههم. ورحم الله من قال:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق
فالأم في تحمل المسؤولية كالأب سواء بسواء، بل مسؤوليتها أهم وأخطر، باعتبار أنها ملازمة لولدها منذ الولادة إلى أن يشب ويترعرع، ويبلغ السن التي تؤهله ليكون إنسان الواجب، ورجل الحياة.. والرسول صلوات الله وسلامه عليه قد أفرد الأم بتحمل المسؤولية حين قال: "والأم راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها".
وما ذاك إلا لإشعارها بالتعاون مع الأب في إعداد الجيل، وتربية الأبناء.. وإذا قصرت الأم في الواجب التربوي نحو أولادها، لانشغالها مع معارفها وصديقاتها واستقبال ضيوفها، وخروجها من بيتها، وإذا أهمل الأب مسؤولية التوجيه والتربية نحو أولاده، لانصرافه وقت الفراغ إلى اللهو وارتياد القهوات مع الأصحاب والخلان..
فلا شك أن الأبناء سينشؤون نشأة اليتامى، ويعيشون عيشة المشردين، بل سيكونون سبب فساد، وأداة إجرام للأمة بأسرها.
ولله درّ من قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من
همّ الحياة وخلّفاه ذليلاً
إن اليتيم هو الذي تلقى له
أمّاً تخلّت أو أباً مشغولاً
فماذا تنتظر من أولاد آباؤهم وأمهاتهم على هذه الحال من الإهمال والتقصير؟! فحتماً لا ننتظر منهم إلا الانحراف، ولا نتوقع إلا الإجرام، لانشغال الأم عن رعاية الولد وتربيته، وإهمال الأب واجب تأديبه ومراقبته.
ويزداد الأمر سوءاً عندما يقضي الأبوان جلّ وقتهما في حياة الإثم والغواية، ويتقلبان في أتون الشهوات والملذات، ويتخبطان في طريق الانحلال والإباحية.. فلا شك في أن انحراف الولد يكون أبلغ وأخطر، وتدرجه في الإجرام يكون آكد وأعظم. ورحم الله من قال:
وليس النبت ينبت في جنان
كمثل النبت ينبت في الفلاة
وهل يرجى لأطفال كمالٌ
إذا ارتضعوا ثُدَيَّ الناقصات
والإسلام في دعوته إلى تحمل المسؤوليات، حمّل الآباء والأمهات مسؤولية كبرى في تربية الأبناء، وإعدادهم الإعداد الكامل لحمل أعباء الحياة، وتهدّدهم بالعذاب الأكبر إذا هم فرطوا وقصروا وخانوا:
{يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} التحريم: 6
والرسول صلوات الله وسلامه عليه قد أكد في أكثر من أمر، وأكثر من وصيّة بضرورة العناية بالأولاد، ووجوب القيام بأمرهم، والاهتمام بتربيتهم.
وإليكم طائفة من أوامره وتوجيهاته:
- "والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها..." رواه البخاري ومسلم.
- "أدبوا أولادكم وأحسنوا أدبهم" رواه ابن ماجة.
- "علموا أولادكم وأهليكم الخير وأدبوهم" رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور.
- "مروا أولادكم بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، فذلك وقاية لهم من النار". رواه ابن جرير.
- "أدّبوا أولادكم على ثلاث خصال: حبِّ نبيكم، وحبِّ آل بيته، وتلاوة القرآن، فإن حملة القرآن في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله" رواه الطبراني. وسنفصل القول عن مسؤوليات المربين في القسم الثاني من كتاب "تربية الأولاد في الإسلام" وسيجد القارئ ما يشفي الغليل، ويشبع النفس والفكر، إن شاء الله.
مصيبة اليتم
من العوامل الأساسية في انحراف الولد: مصيبة اليتم التي تعتري الصغار وهم في زهرة العمر، ومقتبل الحياة.. هذا اليتيم الذي مات أبوه وهو صغير، إذا لم يجد اليد الحانية التي تحنو إليه، والقلب الرحيم الذي يعطف عليه، وإذا لم يجد من الأوصياء المعاملة الحسنة التي ترفق به، والرعاية الكاملة التي ترفع من مستواه، والمعونة التامة التي تسد جوعته.. فلا شك أن هذا اليتيم سيدرج نحو الانحراف، ويخطو شيئاً فشيئاً نحو الإجرام.. بل سيصبح في المستقبل أداة هدم وتخريب لكيان الأمة، وتمزيق لوحدتها، وإشاعة الفوضى والانحلال بين أبنائها.
والإسلام بتشريعه الخالد، وتوجيهاته الرشيدة أمر الأوصياء وكل مَنْ له صلة قرابة باليتيم أن يحسنوا معاملته، وأن يقوموا على أمره وكفالته، وأن يشرفوا على تأديبه وتوجيهه، حتى يتربى على الخير، وينشأ على المكارم الخلقية، والفضائل النفسية، ويجد في ظل من يرعونه كل عطف ومحبة، وكل حنّو وإخلاص.
وإليكم جملة من تعاليم الإسلام التي تأمر برعاية اليتيم، والعطف عليه:
قال تعالى: {ويسألونك عن اليتامى، قل: إصلاح لهم خير، وإن تخالطوهم فإخوانكم} البقرة: 220
وقال سبحانه: {فأما اليتيم فلا تقهر} الضحى: 9.
وقال جل شأنه: {أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدعُّ اليتيم} الماعون: 1-2.
وقال عز من قائل: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً، إنما يأكلون في بطونهم ناراً، وسيصلون سعيراً} النساء: 9.
وقال عليه الصلاة والسلام: "من وضع يده على رأس يتيم رحمة، كتب الله له بكل شعرة مرت على يده حسنة" رواه أحمد وابن حبان.
وقال صلوات الله وسلامه عليه: "من قبض يتيماً بين المسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله تعالى، أوجب الله تعالى له الجنة البتَّة، إلا أن يعمل ذنباً لا يغفر له" رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وأشار بأصبعيه: السبابة والوسطى" رواه الترمذي.
إلى غير ذلك من هذه الأوامر الإلهية، والتوجيهات النبوية، التي تفيد أن رعاية اليتيم وكفالته، واجبة على ذوي القرابات من العصبات والأرحام.. وفي حالة الفقر وعجزهم المادي، وجب على الدولة أن تتعهده وتشرف على تربيته والإنفاق عليه، فيكون ذلك أبعد له عن التشرد والضياع والإهمال.

تلكم هي أهم العوامل الأساسية في انحراف الولد، وهي عوامل ضارة وخطيرة - كما علمت -، فإن لم يتدارك المربون هذه العوامل، وإن لم يستأصلوا أسبابها، وإن لم يأخذوا بالعلاج الناجع الذي وضعه الإسلام في الإصلاح والتربية، فإن الأولاد سينشؤون على الفساد، ويتربون على الإجرام، ويعتادون كل موبقة ورذيلة.. بل يكونون أداة هدم وتخريب لكيان المجتمع، واستقرار الأمة، وأمن البشرية. ومن الصعوبة بمكان ردهم إلى الجادة، وتفهيمهم الحق، والسير بهم نحو معالم الخير، وطريق الهدى، والصراط المستقيم.
فما أجدر الآباء والمربين أن يمشوا على سنن الإسلام، ومنهجه القويم في تربية الأولاد، ومعالجة انحرافهم، وتقويم سلوكهم، وإصلاح نفوسهم، وتثبيت عقيدتهم، وتلقينهم مبادئ الخير والفضيلة والأخلاق.. حتى يروا أبناءهم كالملائكة في طهر أرواحهم، وصفاء نفوسهم، ونقاء سريرتهم، ولمتثالهم لأمر ربهم.. بل يكونون قدوة صالحة لغيرهم في كل مكرمة وفضيلة، وإنتاج وتضحية، وخلق وعمل صالح.
ولا يسَعني في الختام إلا أن أتضرع إلى الله عز وجل، في أن يوفق أبناء الإسلام إلى ما فيه عزهم وسعادتهم وأن يهبهم الإيمان الذي يجدون حلاوته في قلوبهم، وأن يلهمهم دائماً الرشد والسداد، الذي يُلمح في أقوالهم وأفعالهم وأن يجعل منهم أمة قوية متينة تبني الحضارة، وتنشر العلم، وتبني المجد، وترفع بسواعدها الفتيّة لواء العزة والنصر، وتحوّل اتجاه التاريخ، وتعيد لهذه الأمة مجدها الداثر، وعزتها السليبة، وكيانها العظيم، وما ذلك على الله بعزيز، إنه بالإجابة جدير وخير مسؤول. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

يتبع