رسالة من: أ. د. محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد..
فإن الله تعالى ما خلقنا في هذه الدنيا إلا للعمل، بل لإحسان العمل.. (الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)، (الملك: 2) ليكون الجزاء فى الآخرة على قدر إحسان العمل، بإتقانه والإخلاص فيه (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف: 110).
إن الدنيا كلها دار ابتلاء واختبار وسباق (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)، (الحديد: 21) وهي دار تنافس وتمايز (وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين: 26).
من يفهم طبيعة الحياة الدنيا يدرك أن وقته محدود، وأن عمره قصيرٌ قصير، وأن مجال التنافس كبير، وأن المتنافسين كُثُر، وأن الجائزة على قدرٍ من العِظَم ما يجعل الإنسان اليقظ لا يهدأ ولا ينام حتى يحصل على أعظم الجزاء وأعلى درجات الكمال والرضا والنعيم الدائم الذى لا يزول (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) (الصافات: 61).. "ما من يومِ ينشق فجره إلا وينادى: يا ابن آدم أنا يومٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة".
وطبيعي أن تكون بدايات الأعمال الجادة شاقة، تحتاج إلى بذل أقصى الجهد، ومقاومة عوامل الضعف والتثبيط، ومعالجة نوازع النفس، وميلها إلى الركون والراحة والدعة؛ فلا بد أن يكون الحافز قويًّا حاضرًا، وأن تكون النية صادقة متجددة فى كل وقت كي تكون دافعًا للعمل، ومواصلة وإحسان العمل.
قد رشحوك لأمرٍ لو فطِنتّ له ** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ.
ومع استمرار العمل الشاق ينقسم الناس إلى فريقين:
• فريق تضعف قوته وتفتر هِمّته وتتباطأ خطاه، فيقعد في منتصف الطريق وينسحب من السباق بأسًا وانهزامًا واستسلامًا في مواجهة الحواجز والموانع، وهذا لا يفعله أي لاعب رياضي يتسابق في سباق اجتياز الموانع والحواجز، فكيف بطلاب جنة؟ كقول القائل:
تعبٌ كُلّها الحياة فما أعجب ** إلا من راغب في ازدياد
كالذين نراهم ينسحبون من صلاة القيام في منتصف الشهر الكريم.
• وفريق آخر يعاني من نفس التعب، ولكنه يستعذبه، ويعوّد نفسه على العمل الشاق، ويزيد كل يومٍ عن سابقه، متطلعًا إلى منزلةٍ عليا ومستقبل أكثر إشراقًا؛ لأن سلعة الله غالية، سلعة الله الجنة، ونحن المشمرون لها بإذن الله، ويقولون بلسان حالهم كل هذا نفعله.
بصرتُ بالراحة الكبرى فلم أرها ** تُنال إلا على جسر من التعب
ورمضان شهر الجهد والعمل، والبذل والعطاء، والجهاد، والمثابرة؛ أوله جهدٌ ومشقة.. أيامًا معدودات.. حتى يتعود الإنسان فيها على تحمل الجوع والعطش وطول السهر وقهر سلطان الشهوات الحلال؛ ليتدرب على ما هو دائم بعد رمضان، ثم تسير الأمور في أوسطه على وتيرة واحدة من التعود على هذا الحال، ثم تأتي خاتمة الشهر في هذه الليالى العشر؛ فإما أن تضعف الهمة وتخور، أو تستيقط وتنشط وتزداد قوة، والله تعالى رحمةً بنا، وعونًا لنا، وتحفيزًا لهممنا جعل الجزاء يتضاعف ويعظم في هذه الأيام الغالية.
ولقد أخفى الكريم العظيم سبحانه لخلقه جميعًا في هذه العشر الأواخر جائزة هائلة من حازها فقد حاز السبق وبلغ الذرا؛ هي ليلة القدر، ليلة خيرٌ من ألف شهر (83 سنة) .. من فاتته - كسلًا وغفلة - فقد خسر خسارة فادحة، تتحسر عليها النفس البصيرة يوم توزن الأعمال وتتفاوت الأقدار يوم القيامة.
نحن الآن في العشر الأواخر، كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يعتكف في المسجد؛ ترقبًا لها وتشوقًا إليها، وحرصًا على أجرها، ولقاء جبريل عليه السلام فيها؛ حتى لا تفوته لحظة من لحظاتها، كان كما تروي السيدة عائشة رضي الله عنها "إذا دخل العشر الأواخر من رمضان، شد المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا الليل كله"، ونحذر من الخلاف والشقاق؛ لأن حرماننا من معرفة موعد يوم القدر بالتحديد كان بسبب خلاف بين رجلين اثنين فقط.
ما أحوجنا أن نقتدي بالحبيب محمدٍ صلى الله عليه وسلم فنسارع في الخيرات، ونحسن العبادة ونخلص في العمل ونسابق في اغتنام الوقت، فلا يُنفق إلا في طاعة.. الدعاء، الصلاة، تلاوة القرآن، الذكر والتسبيح، تقديم الخير للناس جميعًا "من مشي في حاجة أخيه كان كما اعتكف في مسجدي هذا شهرًا"، بعد أن ذقنا حلاوة الاعتكاف في مساجدنا.. اعتكفوا في المساجد.. عمّروها... أخلصوا العبادة لله.. وانطلقوا منها كقاعدة للعمل من بيوت الله.
احملوا هموم أمتكم كلها في الداخل والخارج، أخلصوا الدعاء لإخوانكم في سوريا وبورما وكشمير وفلسطين.. وفي كل بقعة يعاني فيها المسلمون وتراق فيها دماؤهم وتغتصب أرضهم وتنتهك حرياتهم.
أخلصوا الدعاء لأولياء أموركم الصالحين والصادقين، وأعينوهم بقوتكم وسواعدكم.. افعلوا الخير للناس جميعًا.
وقِفوا في وجه أعدائكم الذين يكرهون لكم العزة والحرية والكرامة يبغونها عوجًا، ويعرقلون مسيرتكم ويحاولون إفشال جهودكم (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103).
وثقوا بعد ذلك في نصر الله لكم، وتأييده لجهدكم، وادعوه مخلصين أن يتقبل منكم، وأن يجعل خير أعمالكم خواتيمها، وخير أعماركم أواخرها، وخير أيامكم يوم لقائه.. (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِى الألْبَابِ) (البقرة: 197).
والله أكبر ولله الحمد