الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه وبعد ..
لابد أن يضع الإنسان الراشد لنفسه هدفاً يسعى إليه، وغاية عظمى يسعى لتحقيقها لتوفر له السعادة فيما يطمح إليه، سواء كان ذلك من خير الدنيا أو الآخرة أو كليهما.. { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ }[البقرة : 148]
وما ينطبق على الفرد ينطبق على الجماعة، بل على الأمة بأسرها ... فلا تكون جماعةٌ جادة أو أمة راشدة إلا ولها هدف أسمى تسعى إليه وغاية عظمى تعمل على تحقيقها من أيسر طريق وأقصره وأرشده.
ولقد ضرب لنا رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) أروع المثل فى تحديد الهدف والإصرار عليه والسعى لتحقيقه مهما كلفه ذلك من عنتٍ ومشقة، ومهما تكالب عليه الأعداء والمناوءون، ومهما حاول إغراءهُ الماكرون { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴿٩﴾ } [القلم] فقال كلمته الخالدة (يا عمَّاه .. والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه) .
ولقد سارت الأمة المسلمة – فى ابتعاثها الأول – على هذا النهج الرشيد .. دعوة إلى الله تعالى تهدى الحيارى إلى ربهم الحق، وتهذِّبُ البشر وتسمو بالأخلاق والسلوك، وتنشر الفضائل ثم صبرٌ على الأذى ومقاومة العقبات وثبات على الحق، ثم هجرة مباركة إلى أرض طيبة وأنصارٍ مخلصين، ثم إقامة الدولة الراشدة على الحق والعدل، ثم الدفاع عن هذا الدين العظيم ونشر رسالته فى ربوع العالمين { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ ..}[آل عمران : 110]
وفى عصرنا الحديث ... حينما بدأت دعوة الإخوان تحاول إرشاد الأمة وإيقاظها من جديد، لتردها إلى مكانته ورسالتها بعد طول تأخر وركود ... حدد الإمام البنا فى (رسالة المؤتمر السادس) غايتين لجماعته المباركة فقال [ يعمل الإخوان المسلمون لغايتين:
• غاية قريبة: يبدو هدفها وتظهر ثمرتها من أول يوم ينضم فيه الفرد إلى الجماعة، تبدأ بتطهير النفس وتقويم السلوك وإعداد الروح والعقل والجسم لجهاد طويل { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿٧﴾فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿٨﴾قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿٩﴾وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴿١٠﴾}[الشمس]
• وغاية بعيدة: لابد فيها من توظيف الأحداث وانتظار الزمن وحسن الإعداد وسبق التكوين، تشمل الإصلاح الشامل الكامل لكل شئون الحياة، وتتعاون عليه قوى الأمة جميعها، وتتناول كل الأوضاع القائمة بالتغيير والتبديل لتحيا من جديد الدولةُ المسلمة وشريعة القرآن {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴿١٨﴾إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا ۚ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّـهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴿١٩﴾ }[الجاثية]
ولقد حدد الإمام البنا لتلك الغاية العظمى أهدافاً مرحلية ووسائل تفصيلية ... تبدأ بإصلاح الفرد ثم بناء الأسرة ثم إقامة المجتمع ثم الحكومة فالخلافة الراشدة فأستاذية العالم ... أستاذية الهداية والرشاد والحق والعدل.
وبين أن هذه الغايات والأهداف تحتاج بعد تحديدها ووضوحها إلى جِديَّة فى التنفيذ، وإصرار على الإنجاز، وتدرج فى الخطوات ، واستمرار فى العمل، وضم الصفوف بالإقناع لا بالإجبار وبالحب لا بالجبروت {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ﴿٢١﴾لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴿٢٢﴾}[الغاشية] {.. وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ۖ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ﴿٤٥﴾}[ق] ... ثم الثبات على الطريق مهما اعترضته من عقبات وشدائد أو مكائد ومؤامرات، فقال فى نفس الرسالة : [ إن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التى تحاول هذا، أو من الفئة التى تدعو إليه على الأقل إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل فى عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاءٍ ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمعٌ ولا بخل، ومعرفةٍ بالمبدأ وإيمانٍ به وتقديرٍ له، يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره.
وفى ثوراتنا المباركة – فى هذا الربيع العربى – كان إصرار الشعوب الثائرة على أهدافٍ محددة واضحة، تجتمع عليها ولا تتنازل عنها، سبباً رئيسياً فى تحقيق هذه الأهداف برحيل الأنظمة الجائرة والحكام الظالمين والتخلص من كل منظومة الفساد التى جثمت على بلادنا فأفسدتها وأخرتها ونهبت مواردها وأعاقت تقدمها ... وأصبحنا قريبين من تحقيق غاية عظمى بإقامة نظام حكم عادل رشيد بكل مؤسساته ومقوماته.
ويحاول المناوءون والمعاندون – بقصدٍ أو بغير قصد – أن يعطلونا أو يشغلونا بمعارك جانبية ... بدعاوى براقة ولكنها زائفة، يمزقون بها صفوف الأمة ويغرقونها فى الجدل العقيم الذى حذرنا منه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتو الجدل) ... بل وصل الأمر إلى استدراج لمعارك ومواجهات مختلقة... بل إلى إسالة دماء طاهرة بريئة ... كل ذلك لتعطيل المسيرة وإجهاض الثورة وشغلنا عن غاياتنا العظمى وأهدافنا المحددة.
ونحن بفضل الله تعالى – وببركة الشورى – نسير فى طريقنا ونُصِرُّ عليه لنحقق أهداف الأمة وأهداف الثورة التى تصبوا إليها ... من تبلور قوى الشعب بملايينه العديدة فى مجلس للنواب يمثل الأمة تمثيلاً حقيقياً صادقاً، ويبدأ مراحل إقامة مؤسسات الدولة الرشيدة والحكم الرشيد ... دولة الحرية والمساواة، وحكم الحق والعدل، بمشاركة كل القوى السياسية والشرائح الاجتماعية.
كل ما نوصى به أنفسنا وإخواننا وشركاءنا فى الوطن ... ألا نُشغل بمعارك جانبية أو جدل عقيم، أو نُستدرج إلى متاهات ومسارات تخطط لنا من أعدائنا لتشغلنا عن أهدافنا العظمى وغاياتنا النبيلة ... {وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿١٥٣﴾}[الأنعام]
ولنحذر كذلك من محاولات تفريق الأمة إلى اتجاهات متضاربة بل إلى تمزيق للصف الواحد إلى شبابٍ وشيوخ ورجال ونساء ومسلمين ومسيحيين ومذاهب وفرق ... فنحن نحتاج إلى كل طاقات الأمة وخبراتها ... نحتاج إلى حماس الشباب وقوته، وإلى حكمة الشيوخ وخبرتهم من سبق جهادهم ... يجمعهم جميعاً صدق الحب والإخلاص والثقة والهدف المشترك، ولنسمع إلى إمامنا الشهيد فى خطابه للمخلصين العاملين من الشباب والشيوخ ( ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق فى أضواء الخيال الزاهية البرَّاقة، ولا تميلو كل الميل فتذروها كالمُعَلَّقة، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلاّبة، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض) .
فإلى العمل وإلى الإصرار على وحدة الصف ووضوح الهدف، مستعينين بالله تعالى، متوكلين عليه {.. وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّـهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّـهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴿٣﴾ }[الطلاق]
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى وعلى آله وصحبه وسلم ..
والله أكبر ولله الحمد
القاهرة فى : 4 من صفر 1433هـ الموافق 29 من ديسمبر 2011م