23/12/2010
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن والاه.. وبعد؛
لا عبودية لغير الله
لقد كرَّم الله- عزَّ وجلَّ- الإنسان على سائر خلقه تعالى فقال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء: 70).
وتنبع كرامة الإنسان من عبوديته لله وحده لا شريك له، والإنسان يلحق به الذل والهوان ويهبط بإنسانيته وقدره حينما تكون عبوديته لغير الله تعالى، والمنهج الإسلامي عنى بالإنسان وكرَّمه على سائر المخلوقات، وجاء القرآن الكريم ليحقق السعادة والأمن والاستقرار للإنسان في الدنيا والفوز النجاة في الآخرة ﴿مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ (طه: من الآية 2).
كما أن الإنسان المؤمن الصالح إذا وُجد وُجدت معه أسباب النجاح جميعًا، وإن كثيرًا مما نعانيه من أزمات ومشكلات في بلداننا الإسلامية ما هو إلا نتيجة لعدم وجود هذا الإنسان الصالح.
وما يفعله أعداء الأمة بها لا يتحقق إلا بغفلتها وقعودها وخلودها إلى الأرض ولا يستطيع الأعداء أن ينتصروا عليها ما دامت تعبد الله بحق، وتأخذ بكل الأسباب التي أمرها بها ربها سبحانه.
هذا قانون الله وسنته في خلقه، لقد أطلق القرآن فكرة (ظلم النفس) و(ظالمي أنفسهم).
فقال لأهل "أُحد" حين أصابهم القرح وقالوا: أنَّى هذا.. فقال الله لهم: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ (آل عمران: 166)، ولم يقل إن ما أصابكم من قوة أعدائكم وحذقهم، وإنما قال لهم: من خطئكم.
وإن آدم أبو البشر جميعًا لم يقل خدعني الشيطان حين أخطأ وأكل من الشجرة، وإنما قال آدم وزوجه: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا﴾ (الأعراف: من الآية 23)، وبهذا الاعتراف المبين استأهلا الخلافة في الأرض.
إن القابلية للاستعمار والاستعباد والخداع ليست من شيم المسلمين، فالعبودية لا تكون إلا لله وحده، وبذلك لا تستطيع قوى الأرض ولو اجتمعت أن تفرض علينا عبادتها من دون الله رب العالمين، وقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم محذرًا "مَن أعطى الذلةَ من نفسه طائعًا غير مكره فليس منَّا".
لقد جاء الإسلام لتحرير الإنسانية كلها من كل أشكال العبودية لغير الله، وجعل التوحيد شعار التحرير "لا إله إلا الله" فلا ملوكَ ولا قياصرةَ ولا أكاسرةَ ولا فراعنةَ ولا جبابرة، فهو سبحانه الرب والملك والإله.
فالحرية هبة إلهية وضرورة إنسانية وإيمانية ليس لأنها سبب في تطوير الأمم ورقيها فقط، وإنما لكونها غاية التوحيد؛ ولأنها حقٌّ إنساني يولد مع الإنسان حين يولد فلا معنى للإنسانية بدونها.
إن للعبودية دورًا مؤثرًا في طمس الطبيعة الإنسانية وانعدام المروءة والشهامة واستمرار الذل والدناءة؛ حرصًا على الحياة وخوفًا من الموت، وهو ما يجعل الشعوب أكثر قابليةً للخضوع والخنوع للطغاة.
فتن ووهن وغثائية.. حتى تعود الأمة إلى ربها
في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تداعي الأمم على المسلمين كما تتداعى الأكلة على قصعتها، وأن الأمر ليس مرجعه قلة عدد المسلمين بل مرجعه إلى الوهن والغثائية الراجع إلى حبِّ الدنيا وكراهية الموت، فإنَّ الناظر إلى الحديث يرى التعبير بكلمة "الأكلة" مثل القتلة فهم ليسوا جوعى بالضرورة بل هم مجرمو أكل مثل مجرمي القتل تمامًا "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.."، وقصعة العالم الإسلامي كبيرة، وبها ثروات ضخمة تُغرِي كل طامع في الانقضاض عليها، وخاصةً في غياب الحراس الذين ملأ الوهن قلوبهم، "ولينزعن الله المهابة من صدور عدوكم منكم..."، وقد رأيناه "وليقذفن في قلوبكم الوهن" نعوذ بالله منه، ومن تعريفه- كما وصف الصادق المصدوق- "حب الدنيا وكراهية الموت".
فكان من أسباب هذا الهوان ترك الجهاد والتخلي عن صناعة القوة التي تُرهب العدو، والتعلُّق بالدنيا والفرح والرضا بحصول ملذاتها من مطعمٍ ومسكنٍ، وقد عبَّر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ذروة سنام الإسلام؛ لأنه يُصان به الدين، وهو أول مقاصد الشرع.
يقول تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 60).
مؤامرات تفكيك الأمة وتفتيتها بلغت ذروتها
فجنوب السودان يوشك أن ينفصل عن شماله، ودولة الجنوب المزعومة أصبح لها نشيدٌ إنجليزي اللغة وعلمٌ عليه الخنزير رمزًا له، وتم اختيار القصر الذي سوف يجلس فيه "سلفاكير" الرئيس المُتوقَّع لدولة الجنوب رغم أن الاستفتاء لم يبدأ بعد.
والحِراك الجنوبي في اليمن يُكثِّف أنشطته، ويعتبر الوجود الشمالي احتلالاً، ولقد رأينا إقليم كردستان العراق يطالب بتقرير المصير والاستقلال واعتبار محافظة كركوك (الغنية بالنفط) محافظة كردية الهوية والانتماء، ولم يعترض عليه أحدٌ من القيادات العراقية؛ لأن اقتراحه كان بمباركة أمريكية، وعلى أسس طائفية فهذه الفكرة نبعت من الفيدرالية التي نصَّ عليها دستور "بريمر" وحلفائه من العراقيين كانت المقدمة لإقامة دولة "شيعية" في الجنوب و"كردية" في الشمال و"سنية" في الوسط، وفي لبنان بلغت المؤامرة ذروتها، وكانت المحكمة الدولية محاولة لتجريم "حزب الله" كمقدمة لتجريم سورية وبما يُشرِّع عدوانًا صهيونيًّا على الطرفين، في الوقت الذي لم تُشكِّل فيه أمريكا محكمة دولية للتحقيق في اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات أو الرئيس الباكستاني ضياء الحق أو حتى "جون جارنج" في جنوب السودان؟
ولماذا لا نرى مجرمَ حرب صهيونيًّا واحدًا يمثل أمامها وما أكثرهم؟ ولماذا لا نرى محكمةً دوليةً تُشكَّل بقرارٍ من مجلس الأمن الدولي للتحقيق في جرائم الحرب الأمريكية في أفغانستان والعراق، وخاصةً بعد اعتراف مرتكبيها بمسئوليتهم عن هذه الجرائم من أمثال "بوش" الابن وتوني بلير مبعوث السلام الدولي للشرق الأوسط!!!
إن الأنظمة العربية الحالية تتحمل المسئولية الأكبر عن عمليات التفكيك والتفتيت؛ لأنها سارت خلف المخططات الصهيوأمريكية وما زالت، فقد شاركت في التآمر على العراق والتواطؤ مع الحصارات المفروضة عليه وعلى قطاع غزة وعلى دولٍ أخرى مثل السودان، وسوريا، وحاليًّا إيران.
ولا يجب أن ننسى في هذا السياق ما قرره المحافظون الجدد في أمريكا، وعلى رأسهم برنارد لويس وريتشارد بيرل (أمير الظلام) وبول وولفيتز وفيث وميللر، ومعظمهم كانوا أعضاءً في اللوبي الصهيوني في أمريكا، وتولوا مناصب بارزةً في حكومة "بوش" الابن، وهم الذين قادوا الحرب على العراق.
ولا ننسى مقولتهم الشهيرة العراق فالسعودية ثم مصر هي "الجائزة"، إنها سياسة شد الأطراف ثم بترها، وهي التي اعتمدت في العراق وفي السودان ويريدون أن يكون الحبل على الجرار كأحجار الدومينو حتى يتم الانهيار الكامل، ولكن أنَّى لهم هذا؟ فالله أعلى وأعز ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (التوبة: من الآية 32).
تلك هي القصعة المليئة وها هم الأكلة جاهزون، فإلى متى تظل الأنظمة تلهو وتنهب وتضطهد شعوبها.. أما آن الآوان أن تفيق من غفلتها؟؟! وتثوب إلى رشدها وتقوم بواجباتها التي سيسألها الله- عزَّ وجلَّ- عنها، ولن تسامحهم الشعوب، وسيذكر التاريخ سجلهم هذا موثقًا توثيقًا لا يقبل التزوير.
في فلسطين ميلاد أمة يلوح في الأفق
لقد أعلنت الإدارة الأمريكية فشل محاولتها بإقناع الصهاينة بتجميد الاستيطان وتخليها بالتالي عن رعايتها للمفاوضات، وأعلن الأمريكان بصراحة أنه على الفلسطينيين القبول بالشروط الصهيونية والعودة إلى طاولة المفاوضات، ولكن هذه المرة تحت مصطلحٍ جديد تم صكه، اسمه "المفاوضات المتوازية"؛ وبذلك أعلنوا هم عن وفاةِ وَهْم العملية السلمية المزعومة برمتها، إن السلطة الآن تواجه لحظة الحقيقة ولا بد من مواجهتها بشجاعة والتخلي عن أساليب التهرب وعليها أن تعترف بأن الرهان على سراب المفاوضات قد انتهى، وأن الاعتماد على أمريكا المتصهينة خيار فاشل؛ لأنها لا تخدم غير القوى الذي يُؤثِّر على مصالحها بشكلٍ مباشر.
إن محاولات تدويل القضية وانتزاع الاعتراف من دول العالم بدولة فلسطين لن تضيف جديدًا فقد تمَّت هذه المحاولة منذ 22 عامًا في الجزائر وحظيت باعتراف 126 دولةً، فهل قامت هذه الدولة؟ وماذا استفاد الشعب الفلسطيني من هذه الاعترافات؟
إن الأمة كلها- وليس السلطة الفلسطينية فقط- مطالبة بالرجوع إلى الثوابت الحقيقية التي يجب أن تحكم قضية فلسطين حتى لا تُنسى، ومن ثَمَّ فإن اعتبار التفاوض والاعتراف والصلح وإقامة دولة فلسطين في حدود 1967 من المسلمات هو خطأ فاحش، إن أرض فلسطين أرض العروبة والإسلام وعليها مقدساتهم، والجهاد من أجل استرداد هذه الأرض فرض عين على الأمة العربية الإسلامية، ولقد كانت حرب غزة نموذجًا فذًّا لصمود الشعب الفلسطيني المجاهد، وكان الفشل الذريع للصهاينة دليلاً قاطعًا على أن ما يحدث في فلسطين هو ميلاد أمة تخرج من بين الركام والأنقاض أكثر صلابةً وقوةً وإيمانًا، ومَن يرغب في نصرة فلسطين فعليه أن ينضمَّ إلى المشروع المقاوم، فلم تعد تُجدي أساليب الشجب والاستنكار، وفلسطين لن تتحرر بالتمنيات والدعوات، وإنما بالجهاد والتضحيات، ونحن نناشد كل الأخوة في فلسطين العودة إلى الوحدة الوطنية على أرضية المقاومة؛ فذلك هو السبيل الوحيد لعودة فلسطين، وإنه لجهادٌ نصرٌ أو استشهادٌ.
وبعد،،
فرغم مؤامرات الأعداء وخططهم ومكرهم، والذي يقول الله فيه: ﴿.. وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ﴾ (إبراهيم: من الآية 46).
فإننا على ثقةٍ من وعد الله وموعوده بالنصر، ونحن نعلم ونُوقن أن نصرَّ الله لا يأتي هبة أو منحة، ولكن وفق سنن وقوانين وأسباب لا ينبغي أن نغفل عنها أو نُقصِّر فيها.. ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ﴾ (محمد: من الآية 4).
﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ (110)﴾ (يوسف)، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾ (الأنفال)، ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ (الفتح: من الآية 4).
نحن أصحاب مبدأ ودعوة وقضية حق، وسوف نلقى الله ونحن عليها ثابتون، ومهما ادلهمت الحوادث والأخطار فلن تغير مسارنا ولن تحرفنا عن هدفنا؛ فالله هو الغاية، والرسول هو القدوة، والقرآن هو الدستور، والجهاد هو السبيل، وسيظل الموت في سبيل الله أسمى أمانينا.
والله من وراء القصد، والله أكبر ولله الحمد