17/12/2010
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه.. وبعد؛
الهجرة والأمل القريب:
لا شكَ أن الهجرة هي رحلة حياة هذه الأمة من يوم أن أَذِنَ الله تعالى بنصره لها ﴿إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ (التوبة: من الآية 40)؛ لأن الله يُمضي سنته وينزل سكينته في قلوب المؤمنين، والله تعالى هو الذي يأْذن بالفرج من عنده، وهو الذي يأتي بالنصر من قلب المحنة، وهو الذي يبعث النور من كبد الظلماء، عشر سنوات ينطلق فيها صوت النبي صلى الله عليه وسلم رغم المعاناة: "مَن يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي"، وتتواصى آلةُ الإعلام بالتشويه، معلنةً لمَن يخرج من مكة: احذرْ غلام قريش لا يفتنك، يقول تعالى: ﴿اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)﴾ (فاطر)، فمن أيَّد النبي صلى الله عليه وسلم؟ ومَن نصره؟ ومَن أبلغ الرسالة آفاق الأرض؟ أليس الله هو الذي أذن بنصره من أول الهجرة؟.
وبينما يظن الباطل أنه ضيَّق على دعوة الله وأنهى وجودها، يأتي الأنصار وتكون البيعة على السمع والطاعة والنفقة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يدعوا إلى الله ويجاهدوا في الله لا يخافون لومة لائم، وعلى النصرة والمنعة، ولهم الجنة، ويلخص جابر بن عبد الله هذا المشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: "فقمنا إليه فبايعناه" رواه أحمد، أليس النبي صلى الله عليه وسلم يُجسِّد لنا: كيف تصنع الأمة نصر الله بعملها وجهادها وتضحياتها؟ وصدق الله القائل: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)﴾ (آل عمران).
وبينما القوى الغاشمة المستبدة الظالمة في مكة، يضللون الناس بالأكاذيب حول الدعوة، وبالتآمر حول الداعية صلى الله عليه وسلم، ويمارسون أبشع أنواع التعذيب والبطش والإيذاء، في نفس اللحظة، لم يكن هناك من بيتٍ بالمدينة إلا وفيه ذكر الله ورسوله ودعوة الإسلام، فهل أدرك هذا المعنى اليائسون الغارقون في تشاؤمهم البغيض مِن فرجٍ قريبٍ لهذه الأمة المكلومة اليوم، المنتصرة في الغد بإذن الله، ومَن يدري لعلَّ الله يصنع للأمة خيوطَ فجرٍ أبيض من حلكات ليلها الداجي؟ ومَن يدري لعل معاناة الأمة وآلامها اليوم هي بعينها مخاض النصر والتمكين لدين الله في الأرض.
فمنذ أول وهلةٍ لم يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم فارًّا أو مستسهلاً، وإنما منتصرًا بثباته وأصحابه ومنتقلاً إلى الأصعب ليكمل خطوات الرسالة، وفي شموخٍ يتلو قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)﴾ (يس)، فرغم الحصار، ورغم الأسر، ينثر النبي صلى الله عليه وسلم التراب على الرءوس المستكبرة، والمتجمعة على قتله ظلمًا وعدوانًا، أوليس هذا التراب قد تفرَّق على رءوس ممثلي القبائل بدلاً من تفرقِ دمه صلى الله عليه وسلم في القبائل، وما كان هذا الخزي والعار إلا فضيحة مدوية لفشلهم، ولكل مَن سار على دربهم، بهذه الحقيقة الدائمة: بأن الأمل يحيا من بواطن الظلمة السوداء؟ فهم لا يدركون أنهم يحاربون الله الذي قال "مَن عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب".
وفي سورة القصص بداية بعث الأمل في وعد الله رغم أنف الظالمين كما قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾ (القصص).
ومن لحظة الأمل هذه يبدأ العمل، ويبدأ الجهاد، وتبدأ التضحيات، وكلها خطوات يحميها ويؤيدها وينصرها الذي أذن بالهجرة، وهذا هو ما كان يقينًا في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول لأبي بكر: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، وكأنَّ صوت النبي الواثق في نصر الله، يتوجه اليوم في أمتنا: لا تهنوا ولا تحزنوا إن الله معكم، إن استوعبتم معنى الهجرة العميق، من الثقة والعزم والأمان، هنالك تنطلق الحقائق الدامغة في وجه المتشائمين والمثبطين، حين ينقلب السحر على ساحره، وما أمر سراقة بن مالك منا ببعيد! فقد جاء أول النهار جاحدًا للدعوة والداعية، يُحرِّكه المنصب والمال، وأصبح آخره حارسًا للدعوة والداعية صلى الله عليه وسلم، يُحرِّكه الأمل في التمكين لأمة الإسلام، وهو ما رآه وتحقق منه في حياته عندما لبس سوارى كسرى كما وعده الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ﴿وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (النحل: من الآية 41).
الهجرة ومصارع الطغاة:
وفي خطٍّ موازِ للأمل، كانت الهجرة إيذانًا من الله بزوال الطغاة، وهو ما رأته الأمة حقيقةً شاخصةً في انتصار بدر، والنبي صلى الله عليه وسلم يُشهد المسلمين مصارعَ الطغاة، هؤلاء الصرعى هم الذين اعتلوا السلطة فاستبدوا وظلموا وافتروا وتكبروا وتغطرسوا، فأين هم الآن؟، هؤلاء الصرعى هم الذين عذَّبوا الضعفاء من المؤمنين وحاربوا الدعوة وتآمروا على الداعية، فأين هم الآن؟، هؤلاء الصرعى هم الذين احتكروا سُدة الحكم، وحاصروا المؤمنين بالجوع، وأفسدوا الحياة، وألبوا الناس على الدعوة والداعية تشويهًا، أين هم الآن؟ هؤلاء الصرعى هم الذين دعاهم القرآن بسبيل الإقناع فأبوا إلا طريق النفي والتشريد والحبس والحصار والقتل، فأين هم الآن؟ اليوم هم صرعى على باطلهم، يقول تعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ (الأنعام: من الآية 28).
ألم تكن إذن الهجرة هجرًا حقيقيًّا للطغيان والظلم والاستبداد؟، فالطغاة الذين ألجأوا النبي صلى الله عليه وسلم للهجرة، أدركوا مدى الخطر الذي أقدموا عليه والمُبيَّت لهم، وكانوا على قناعةٍ من أعماقهم، بأن الدائرة ستدور عليهم قريبًا، فهل أفلحت وسائلهم في صدِّ سنة الله الثابتة عليهم؟، هذه الحقيقة المتواصلة عبر التاريخ:
- لقد امتدت الفتوحات على هذه الأرض شرقًا وغربًا، بعد ما ظنَّ المرتدون أن الإسلام زائلٌ لا محالةَ!.
- ولقد هَزَمَ الله سبحانه وتعالى أعداءه من التتار في عين جالوت، بعد ما ظنَّ الناس أن أمة الإسلام قد أُبيدت فور قتل مليونَي مسلم في بغداد وحدها!.
- ولقد تهلل المسجد الأقصى يوم أن تحرَّر من الصليبيين في حطين، بعد ما ظنَّ المتآمرون بخوضهم في دماء المسلمين، أن الأمةَ قد أُصيبت بسكتةٍ لا تنهض بعدها!.
فلا يأس ولا قنوط فرُبَّ منحةٍ في طي محنة، يقول تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ (البقرة: من الآية 216)، فإن كانت شدة في ميزان الناس، فهي في ميزان الله فرجًا قريبًا، وإن كانت تضييقًا فهي في ميزان الله فتحًا مبينًا، وإن كانت ليلاً حالكًا فهي في ميزان الله فجرًا حاضرًا.
نداء الإخوان المسلمين لأحرار الأمة:
ولذلك فالإخوان المسلمون وهم يستلهمون من الهجرة معناها العميق: في الأمل ونهاية الطغيان، يؤمنون بأن معاناة أمتنا في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرهم من عدوان الصهاينة والأمريكان، وآلامها من المؤامرات المتتالية بأيدى حكامها لتمزيقها ونهب ثرواتها، ما هي إلا رحلة الأمة نحو النصر والرفعة والتمكين لها في الأرض إن هي استيقظت وتآلفت وتناست خلافاتها، وتنبهت لمكائد أعدائها مستجيبةً لنداء ربها و﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)﴾ (الأنبياء)، ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: من الآية 103).
ولذلك فالإخوان المسلمون يطمئنون القلوب المهمومة بالأمة، والتي أقضت مضاجعها وأسالت مدامعها آلام الأمة، ويرسلوا إليها نداءً وبُشرى، بأننا انطلاقًا من إسلامنا العظيم، بحُبِّ الجهاد، وتقديم التضحيات واليقين في وعد الله وموعوده، نصنع معًا فجرنا المشرق الوضاء، وحينئذٍ نفرح جميعًا بفضل الله ونصره تعالى، فهو الذي أهلك فرعون الذي طغى، ودمَّر ثمود التي كذبت بطغواها وانبعث أشقاها، وأغرق قوم نوح إنهم كانوا هم أظلم وأطغى، ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18)﴾ (المرسلات).
وهو تعالى القادر اليوم على ردِّ التآمر الأمريكي الصهيوني، وتبديد غطرسة وعبث الصهاينة في المسجد الأقصى، وكسر الحصار الآثم من حول غزة الأبية، التي يعتصم أهلها بالمقاومة، ويعبرون بعزم وقوة عن حقيقة الهجرة، في انطلاقتهم المباركة وانتفاضتهم الأبية، نحو تحقيق أمل الأمة بدحر الاحتلال الغاصب، ورفض ومقاومة الظلم وإنهاء كل أشكال الاستسلام للعدو الخارجي والأنظمة الحاكمة الظالمة، بعد الفشل المتوالي باسم المفاوضات المهينة، سواء كانت المباشرة أو غير المباشرة، فكلها أباطيل يدحضها صوت المقاومة الصادق، فهل يكتب الله لنا صلاة في الأقصى؟ ونشهد يومًا وضَّاءً! مثل يوم دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، يقول أنس: "شهدت يوم دخل النبي المدينة فلم أر يومًا أحسن منه ولا أضوأ منه" (رواه الحاكم)، فإلى هذا اليوم يا أحرار الأمة، يسبقنا الشوق لنصر الله، ثابتين على الإعداد الذي أمرنا به الله، فإن الله قضى وقدَّر أن يخذل الباطل، بقوة أنصار الحق وتضحياتهم ليستروا القدرة ويأخذوا الأجرة، وما ذلك اليوم ببعيد: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (الإسراء: من الآية 51).
والله أكبر ولله الحمد