26/11/2010
الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على خير خلق الله؛ سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد.
كانت مصر عبر العصور منارةً يهتدي بها العالم كله في كلِّ المجالات، وكانت القاطرة التي تقود الأمة نحو التقدم والرقي والنهضة الحقيقية، وهذا ما أدركه جميع من قرأ تاريخ مصر بل وتاريخ الأمة متفحصًا ومدققًا.
إن هذه المكانة المستحَقَّة لمصر ليست هبةً تُعطَى، ولا عطيةً تُوهب، ولكنه استحقاق عن جدارة حقيقية، ورصيد من النضال، وإقامة لصرح المجد في علياء شموخه، بما فضَّل الله مصر، وبفعل رجال سطروا أسماءهم وأفعالهم في التاريخ بأحرف من نور، ورفعوا اسم بلدهم إلى المكانة التي تستحقها والتي نتشرف بانتمائنا لها، وبأن تكون نشأة دعوتنا المباركة (الإخوان المسلمون) إحدى ثمرات هذه الأفعال.
ولقد كرَّم الله سبحانه وتعالى مصر وذكرها في القرآن الكريم في أكثر من آية، معليًا شأنها وقدرها إلى يوم الدين: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ (99)﴾ (يوسف)، كما أثنى المصطفى صلى الله عليه وسلم على أهلها وأوصى بهم خيرًا، كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا منها جندًا كثيفًا، فذلك الجند خير أجناد الأرض" قال أبو بكر: لمَ يا رسول الله؟ قال: "لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة".
هذه المكانة وتلك المنزلة التي حافظ عليها ودعمها كثير ممن حكموا مصر، وأدركوا عظم الأمانة الملقاة على عاتقهم نحو هذه الأمانة وتلك المسئولية، وأدركوا أن بصلاحهم وإصلاحهم وتقدمهم تتقدم الأمة كلها، وعلموا أن مصر هي قاطرة التنمية والإصلاح الذي يعدُّ من الدعائم الأساسية لنهوض الأمة اقتصاديًّا وسياسيًّا.
وكما عظَّموا الأمانة عظَّموا الجهد المبذول للحفاظ عليها وعملوا لها، وضحَّوا في سبيلها، فأفادوا الدنيا واستحقت مصر تلك المكانة العظيمة عن جدارة واستحقاق، ولم يكتفوا بالتكريم القرآني لهم، ولكنهم أنزلوه منزل التطبيق.
مصر.. التي دافع قادتها عن أمنها القومي من مئات السنين، وأدركوا أن الأمن القومي لمصر لا يُحَدُّ بحدودها ولكنه يتعدَّى تلك الحدود، ولا ينتظرون حتى يداهم الخطر حدودها؛ لذا نجدهم واجهوا التتار والصليبيين خارج الحدود المصرية في "عين جالوت" و"حطين"، وغيرهما من معارك سطرها التاريخ بفخر واعتزاز، فهؤلاء القادة العظام أدركوا أنه لا يمكن الفصل بحال من الأحوال بين أمن مصر القومي والأمن القومي العربي والإسلامي.
مصر.. الأزهر، منارة الحضارة والعلم والمعرفة والقيادة الثقافية والفكرية للأمة، وأكبر مركز ثقافي إسلامي وأقدمه، وقبلة العالم العربي والإسلامي ثقافيًّا وحضاريًّا.
مصر.. كنانة الإسلام ومصدر العلم والمعرفة.
مصر.. التي قادت العالم العربي والإسلامي في مسيرة حضارية وتاريخية، بل وأنقذته في فترات دقيقة عصيبة في التاريخ الإسلامي.
مصر.. التي أرست قواعد حضارة الخير والعدل والنماء للجميع.
مصر.. التاريخ والدور والواجب والريادة والاستحقاق.
هكذا كانت مصر، وهكذا كان ينظر إليها العالم كله، ولذا كانت في بؤرة الأحداث ودائرة الاهتمام، وما كان يستطيع أحد ولا تجرؤ قوة ما على تخطِّيها أو تهميش دورها.
من مصر يبدأ الإصلاح
ومن هنا فإن صلاحَ مصر وتقدُّمَها ورقيَّها وازدهارَها هو تقدمٌ ورقيٌّ وازدهارٌ للأمة كلها، ولهذا كان تركيز الاستعمار قديمًا وحديثًا على استهداف مصر ومقدراتها؛ لأنه يدرك أنه إذا تقدَّمت مصر فستتقدم الأمة كلها، فهذه هي مكانة مصر، وهذا هو قدْرها وقدَرها.
فمصر بها خير أجناد الأرض، وبها طاقات وقدرات فذَّة في كلِّ المجالات، يصعب وجودها في أي قطر آخر، وهذا ليس تحيزًا لقطر على آخر، ولكنه التاريخ والحقائق التي لا تخطئها عين.
فحين يتحقق الإصلاح بكلِّ مجالاته وأنواعه في مصر، فبلا شك سينعكس ذلك على جميع دوائر الأمة العربية والإفريقية والإسلامية، هذه الدوائر التي حاول البعض جاهدًا تهميشها وتحجميها والنيل منها أو على الأقل عدم إعطائها ما تستحقه من رعاية واهتمام.
فبتقدم مصر وازدهارها وانتشار الإصلاح والحرية والعدل والمساواة فيها، سيقتدي بها الكثير من الدول العربية والإسلامية، بل ودول المنطقة كلها.
الواقع البئيس
ولكن حين تخلَّت مصر عن دورها ومكانتها- بفعل فاعل- رأيناها لا يهتز لها جفن، وألد أعدائها وأكبر مهدد لأمنها القومي لا يبعد عنها سوى أمتار قليلة، بل وتبذل كل جهد لحمايته وحصار شعب عربي مسلم شقيق!!، بل وعقدت معه اتفاقاتٍ وصدَّرت له الغاز ومواد البناء التي تُستخدم لتشديد الحصار على أشقائنا، وهو ما أدَّى إلى تقزيم دورها عربيًّا وإفريقيًّا وإسلاميًّا بل ودوليًّا، وانكفاء النظام على مصالحه ومصالح أركانه وتجاهله المصالح العليا للوطن والأمة.
رأيناها تتخلَّى عن دورها ومكانتها في إفريقيا عمومًا، وفي السودان الشقيق على وجه الخصوص، الذي يمثل العمق الإستراتيجي لمصر، وتراجعت عن دورها المفترض على كلِّ المستويات وفي كلِّ المجالات، ولا يفوتنا إهمال النظام التعامل الحكيم مع دول حوض النيل؛ ما أدَّى إلى المشكلات المعقَّدة معهم، والتي ستكون مصر المتضرر الأول من جرائها.
ومن الأسف أن هذا لم يكن وليد صدفة أو إهمال، ولكنه كان عن تعمُّد ومع سبق الإصرار والترصُّد، فبعض الأنظمة المتعاقبة على الحكم في فترات الضعف والهوان هذه قد تخلَّت طواعيةً عن دور مصر ومكانتها؛ تحقيقًا لمكاسب شخصية ومحدودة وبكلِّ أسف؛ ما أدَّى إلى تفاقم أزمة دور مصر الإقليمي، وصارت مكانة مصر في حالة "موت سريري" لا يحفظ لها دورًا حقيقيًّا.
إن الأمر أكبر من تراجع الدور المصري في المنطقة، فهو في حقيقة الأمر تخلٍّ كامل عنه وعن إرادة واعية، وهذا ليس بمستغرب على نظام استمرأ الفساد والإفساد، حتى أضرَّ بوطنه وبجميع من حوله، وأسفرت سياساته الخاطئة عن تعميق التقوقع والبعد عن دوائرنا التاريخية والجغرافية والسياسية.
إن كل ما سبق يظهر الفرق بين مصر الدور والتاريخ والمكانة وما آل إليه وضعها ومكانتها الآن، وهو ما يدفعنا إلى توضيح ما يجب على النظام الحالي فعله للحفاظ على هذه المكتسبات التي تحقَّقت عبر عصور عدة، وإدراكه أنه بصلاح مصر ستصلح الأمة، وأنه إذا استمر في غيِّه غير عابئ بمصالح مصر ومصالح الأمة فسيبوء بإثمه وإثم الأمة كلها.
فما تحقق من إنجازات ومكتسبات لمصر عبر التاريخ- نفخر ونتباهى بها الآن- إنما كان بجهد ودماء مصرية، روت الأرض بدمائها وعرقها؛ لتستمر مصر في مكانتها التي تبوَّأتها، وليس من أجل التفريط في الأرض والكرامة والأبناء والتاريخ، هذه الأرض التي تباع لقاتلي أبنائنا ولسافكي دماء أسرانا بأبخس الأثمان، بل ويدنِّسها قادة الصهاينة بأقدامهم كل فترة من الزمن!!.
إن مصر أكبر من أي نظام، وأكبر من أن يُضرب بها المثل في أحدث طرق التزوير والتعذيب والتطبيع، فمصر التي كانت قبلة العالم في التطور والتقدم والنهضة والرقي، تصبح الآن على يد نظام فاقد لأدنى درجات الوعي بمكانتها وقدرها مضرب المثل لكلِّ ما هو سيئ.
رسالة إلى النظام
ونحن على أعتاب انتخابات برلمانية بعد أيام قلائل؛ فإن هذا النظام يجب عليه أن يتخلَّى عن النظرة الضيقة لمصالحه ومصالح أفراده، ويغلِّب المصالح العليا ليس لمصر وحدها ولكن للأمة كلها، وأن يُجري انتخابات حرةً ونزيهةً، ويتخلَّى عما دأب عليه من تزوير مفضوح وتزييف متعمَّد لإرادة الأمة، كما نناديه بألا يعبث بمكانة مصر وقدرها، بتصرفاته غير المسئولة، فالانتخابات الحرة تُعلي من شأن مصر وقدرها، والإصلاح هو أولى درجات التقدم.
وحتى لا يصبح الشعب المصري بلا هويَّة فإن على النظام أن يحرص على الحريات العامة والخاصة، فأية حكومة وأي نظام من غير حرية للشعب ومن غير تعظيم الإنسان وتقديره كما كرمه الله سبحانه وتعالى؟! ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾ (الإسراء)، يفقد شرعيته ويصبح معارضًا لإرادة الأمة.
فالبشر هم العمود الفقري للتنمية، وهم السند الحقيقي لأي نظام، فمن لا يعتمد على شعبه ويتترَّس به فهو مهزومٌ، ومن استقوى على شعبه بقوة زائلة أو أجنبي مغرض فهو الخاسر الأكبر، ولعلَّ في زوال قوى الاستكبار والتجبر وهزيمتها في أفغانستان والعراق وكثير من بلدان العالم؛ أكبر دليل على ذلك.
ولا سبيل إلى أن يتجنَّب النظام المصري انحسارًا إضافيًّا لدور مصر الإقليمي- الذي لم يبقَ منه الكثير- إلا بأن تُجرَى انتخاباتٌ حرةٌ ونزيهةٌ بحق، وأن يكون هناك تداول حقيقي للسلطة وحرية حقيقية، وتعظيم لإرادة الأمة وعدم تزييفها، والتركيز على التنمية والإصلاح السياسي، والتحلِّي بمفهوم الريادة الحقيقي لا الريادة المزيَّفة، وأن يكون هناك ترسيخٌ لإرادة التغيير في نفوس القادة والمواطنين على حدٍّ سواء، وضرورة التواصل مع جميع القوى والاتجاهات، وعدم إقصاء أي فصيل لهوى متبع أو رغبة محرمة، وهذا كله ليس هبةً ولكنه حقٌّ لنا كشعب وواجب عليه كنظام.
إننا نريد النهوض بمصر؛ لأن بنهوضها تنهض الأمة كلها، نريد النهوض الشامل الأخلاقي والثقافي والسياسي والاقتصادي، فالاستبداد والدكتاتورية يفسدان النفوس والضمائر، وهما بداية السقوط والانهيار، مهما طال الزمن، ومهما طالت مدة البقاء في الحكم لأي نظام كان.
إن الإصلاح الشامل هو أول طرق الوحدة العربية والإسلامية، والتزوير هو بداية الانهيار، فإذا ما زُوِّرَت الانتخابات فستتأخر الأمة كلها.. ألا هل بلغت؟! اللهم فاشهد ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)﴾ (هود).
أيها الإخوان المسلمون.. أيتها الأخوات المسلمات
إنكم مقبلون على مرحلة حساسة من تاريخ أمتكم، مرحلة لها ما بعدها، فكونوا كما يحب ربكم ويرضى، وأروا الله من أنفسكم خيرًا، وأعطوا القدوة من أنفسكم في جولاتكم وحركتكم، وتحلَّوا بخلق الإسلام ومبادئه وقيمه في كلِّ وقت وحين، وبخاصةٍ في يوم الانتخابات، فأنتم أصحاب دعوة؛ فلتُؤَدُّوها بحقِّها، ولا تشغلكم ادِّعاءات مدعٍ، ولا تزييف مزيف، ولكن أدُّوا أدواركم كما خططتم لها، واثبتوا على مبادئكم، وتمسَّكوا بالحق، ووحِّدوا صفَّكم، وأخلصوا النية لله، واتركوا النتائج عليه؛ فهو وليُّنا ونعم النصير، والله معكم ولن يتركم أعمالكم.. ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)﴾ (الحج).. والله أكبر ولله الحمد. وصلِّ اللهم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلِّم.